مقالات وآراء

كيف يبدع الفنان الحياة من الموت؟

واسيني الأعرج

قد يبدو الأمر متناقضاً من حيث المظهر، إذ كيف نجمع بين الحياة التي تعني استمرارية الأشياء وبين الموت الذي يعني ببساطة الإفناء وتوقيف صيرورة الحياة. ومع ذلك، تظل مقاسات الإبداع تخضع لشيء آخر محكوم برمزيات تخترقها أسئلة الخلود والأبدية المفترضة والغامضة حتماً، إذا لا شيء في النهاية يموت.

تاريخنا الثقافي والفني والحضاري مؤثث بالتفاصيل التي زالت كوجود، لكنها ما تزال مستمرة فينا. مكتباتنا الخاصة والعامة تجيش بالأموات لدرجة أن نظنها مقابر من ورق لا شيء فيها إلا الأصوات المكتومة.

نجيب محفوظ ينام بجانب غارسيا ماركيز، كلاهما ينافس صف موراكامي وأدونيس. الموت لا وجود له في المجالات الفنية، لأن الأعمال تستمر حية في حياتنا ووجداننا. الكاتب أو الفنان عمومًا، باختياره الإبداع كممارسة حياتية، يكون قد وضع نفسه في عمق أسئلة وجودية شديدة التعقيد والتشابك، منها مثلًا عدم قبول الموت بسهولة كحالة انطفاء عادية تمس كل الكائنات الحية، ومقاومة الأمراض الخبيثة الأشد فتكاً، التي يتعرض لها الإنسان في حياته ولا يستسلم لها. بهذا، يضع الفنان نفسه بوعي أو بدون وعي، أمام إشكاليتين: الموت كحتمية وجودية تقع فوق الإرادة البشرية، إما بفعل التقادم والشيخوخة أي الموت الطبيعي، أو بفعل الطارئ الذي يقع خارج الإرادة البشرية، أو مثلما كان يقول الكاتب اليوناني الكريتي الشهير نيكوس كازانتزاكي، وهو يصف في كتابه السيري: تقرير إلى غريكو، الموت بحالة غروب، يعقبها الصمت الذي يحتله الموت كليًا.
أي نهاية الإنسان البيولوجية بفعل التآكل الطبيعي، يصبح للزمن قيمة استثنائية، ليس للعيش فقط ولو للحظات، ولكن لقول ما لم يستطع قوله طوال حياته. تصبح الكتابة بالنسبة للفنان وسيلته الأخيرة، وسلاحه الأكيد لمقاومة التفتت الجسدي المتسارع الذي لا شيء ينشأ وراءه إلا البياض. لهذا، كثيراً ما وجد المبدع، والكاتب تحديداً، في الكتابة وسيلته للتعلق بفكرة الخلود الرمزي، حتى في حالاته اللاواعية.

فيقاوم باستماتة حالة النهايات التي لا سلطان له عليها إلا بهذه الوسائط الفنية ليستمر أبداً، كما لو أن الموت في النهاية ليس إلا فكرة طارئة تمس الخارجي ولا تمس الجوهر أبداً. فيكتب كما فعل كزانتزاكي سيرته المدهشة «ليقهر الموت» وليستمر في الوجدان العام وهو على يقين كلي بأن الموت الطاغي يتوقف، بقوة الإبداع، عند عتبات الحياة.
من يستطيع أن ينكر اليوم فكرة الخلود الرمزي على هذا الكاتب العظيم الذي غير نظام السرديات الإنسانية العامة؟ ظاهرة صغيرة تجسد حقيقة هذه الثنائية الحياة/الموت، كلما استعد المسافر للنزول على مطار كريت مثلاً، سمع المضيفة وهي تقول: لقد شرعنا في النزول على مطار نيكوس كزانتزاكي. اسم كاتب يحتل واجهة بلد. الشيء نفسه يقال عن مطار روما.

طبعاً من دون الحديث عن المكتبات العامة أو الفردية كما المخصصة له، المرصعة بمؤلفاته التي وقفت مع حرية الكائن وشرطيات وجوده الصعبة، إلى آخر نفس: رواية زوربا، غواية المسيح الأخيرة، المسيح يصلب من جديد، الحرب والحرية، وغيرها من نصوصه الخالدة.
وهذه العلاقة مع الموت، وبهذا الشكل، تجعل الفنان يتفرد من حيث مقاومة الإفناء الوجودي الطبيعية. على حيطان الكثير من محبي الفن لوحات أصلية أو منسوخة تذكرنا بالأنامل التي نسجت ألوانها، على الرغم من أن الموت البيولوجي أخذها منذ زمن بعيد، ومنذ قرون أحياناً، مثل الجيوكاندا لدافنشي مثلاً، ولوحات محمد خدة، وإيسياخم، وإيتيان دينيه، ولوحات ميرو، وبيكاسو، وسالفادور دالي، وغيرهم كثير.

ما تزال أسماء كبيرة مثل الجاحظ، وزولا، وبالزاك، فلوبير، موليير، سيرفانتيس، المعري، ابن رشد، حنا مينة، منيف، جبران وغيرهم، تحتل أجمل خزائننا، وتذكرنا ليس فقط بخلود هؤلاء، ولكن أيضاً بتأثيرهم على حياتنا اليومية. هم هنا، في سكينة وأبدية نتقاسمها معهم ومع غيرهم من بشر وقوميات متعددة، لأن المشترك الفني فيها هو جانبها الإنساني بامتياز. نحادثها.
نأخذ آراءها ونستشهد بها وكأنها أمامنا، لا فاصل بيننا وبينها إلا رداء الزمن الوهمي.

من هنا، نفهم جيداً ألا يستسلم الفنان/المبدع، للموت العابر الذي هو محطة إجبارية تمس كل كائن حي، ويقاومه باستماتة، حتى ولو كان يعرف سلفاً أن الموت يتفرس في وجهه كل ليلة باشتهاء.
إذا أخطأه في الليل يباغته في الصباح، وإذا أخفق معه صباحاً يواجهه في النهار بمختلف معوقات الحياة العصرية ومخاطرها الماثلة أمامه في كل ثانية. ندرك جيداً أن الموت سلطة متعالية على كل شيء، ولكنها لا تفعل الشيء الكثير أمام سلطان الفن. في الفن بذرة الخلود والأبدية.

أعمار الفنان المتعددة ليست بيولوجية، إذ لا يختلف عن غيره من الكائنات التي تدب على الأرض برجلين أو بأربع، ولكنها رمزية، تنتقل من خلال فنه ومنجزه، وعبر الذين خلفهم وراءه وأحبوا منجزه، ووهبهم ملكاته ليستمر فيهم ومن يأتون بعدهم، وبعد بعدهم. في النهاية، الموت الذي يعني البتر القسري والنهايات، لا يمكنه أن يبيد ما لا يباد. الفن حيّ، لكنه ليس مادة ثابتة. حياة متجددة عبر الزمن.
ما يزال الروائي إميل زولا يُطبع كل سنة بآلاف، في فرنسا، وربما بملايين النسخ، ويمر عبر السينما التي تبعث فيه حياة جديدة تجعلنا قريبين منه، فنرى كم أنه شبيه لنا في كل شيء. الشيء نفسه بالنسبة لتولستوي، الذي أعادت السينما رائعته “آنا كارينيا” إلى الحياة، لنكتشف ليس فقط أن الزمن لم يتغير إلا قليلاً، ولكن تولستوي حي أبدًا.

الفنان التشيلي فكتور غارا، قصت أصابعه في ملعب المدينة لكيلا يعزف أناشيد الحرية، لكن الناس في الملعب ظلوا يرددون أناشيده التي هزت كيانات المؤسسة العسكرية الانقلابية التي كان بينوشي على رأسها.
ماذا بقي اليوم من الاثنين، اندثر الجنرال وبقي الفنان العظيم فكتور غارا محمولاً في حناجر كل عشاقه ومحبيه. أجمل كتابة توضع على شاهدة قبر كاتب أو فنان: [فارق الحياة صدفة. لكنه لم يمت أبداً. ما يزال هنا. يملأ قلوبنا حباً ونوراً.

من صادفه في مكان ما فليرفع له القبعة ويقول له شكراً لمنجزه العظيم الذي لامس عصره وعصرنا أيضاً] . في النهاية، الحياة ليست منة للفنان، ولكنها قدره الحتمي.

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..