الخطوات العملية للتقسيم الماكر
خالد فضل
على إستحياء ماكر بدأ بعض الصحفيين والكتّاب الترويج تلميحا وفي بعض الحالات تصريحا لفكرة دولة النهر والبحر , وعند بعضهم يصفها (السودان الجديد) بل مضى بعض الزملاء لتسمية المناطق التي يجب عزلها من تلك الدولة وتحديدها بدارفور وديار المسيرية في كردفان . بالطبع من الحق البدهي لكل شخص أن يعبّر عن رأيه . هذه نقطة جوهرية إذا وافق عليها دعاة التقسيم واحتملوها , تبطل دعواهم , فهم إذ يعبرون في الواقع عن ضيق بالآخر , فما الضمان أنّ صفة الآخر هذه تنتقل مباشرة إلى آخر صمن دولة النهر والبحر المقترحة نفسها , سيكون الطرح الموضوعي في حالة بروزه -وهو أصلا موجود- أن يتم تقليص الدولة مرّة أخرى بعزل هذا الآخر الجديد , وهكذا تستمر عملية الإنكماش على الذات المتوهمة إلى أن تبلغ مرحلة (أنا وأخي الشقيق فقط) على أحسن الفروض . يذكر الناس أنّ جماعة الإسلاميين في تنظيم المؤتمر الوطني قد أسسوا منبر السلام العادل بالتزامن مع خطوات إبرام إتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان , واصدروا صحيفة الإنتباهة بزعم صوت الأغلبية الصامتة وشعار (إنتباهة في زمن الغفلة) , في الحقيقة الأغلبية الصامتة التي يقصدونها هي جزء من أقلية سكانية تقطن في ولايتين في شمال السودان بل أفراد من قرى محدودة يسيطرون على مفاصل الأجهزة الأمنية والعسكرية بصورة خاصة . وكان المنبر ولسان حاله يدعوان بسفور إلى فصل جنوب السودان والإكتفاء بالولايات الشمالية بإعتبار تجانسها الديني والثقافي واللغوي , وهي خطّة كان قد طرحها السيد عبدالرحيم حمدي وعرفت إعلاميا بمثلث حمدي ؛ قاعدته خط سنار الأبيض ورأسه دنقلا . وقد رحّب الرئيس المخلوع عمر البشير بإنفصال الجنوب ووصفه بعبء قد إنزاح , وخلوص لدولته من دغمسة التعددية الدينية والثقافية . وبالطبع كان معظم من يطرحون اليوم خيار دولة نهرهم وبحرهم ضمن ركب المؤيدين لأطروحات الرئيس ومنبره وصحيفته وإن أظهروا نقدا لها لزوم الإثارة الصحفية .
الآن يتكرر نفس السيناريو فالقيادة الحالية للجيش المسيطرة على سبع أو ثمان ولايات تقع كلها في جغرافيا النهر والبحر , هي في حقيقة تكوينها وترقيها العسكري إمتداد عضوي لذات القيادةالسياسية والمؤسسة التي كان يقودها عمر البشير , لم يك لأي عضو فيها رأي مخالف وإلا لكان الآن يحمل صفة (معاش) لاحقة برتبته حتى إن احتفظ بإنتمائه السياسي للحزب. وبالتالي فإنّ الأصوات الصحفية والإعلامية هي الأخرى تتبع لذات المنظومة المسيطرة وتتبادل معها المصالح المعنوية والمادية.
لكن الأخطر في المسألة في تقديري , هو الشروع الفعلي في تنفيذ الخطة عبر سلسلة متواصلة من الإجراءات والقرارات. منها عقد إمتحانات الشهادة الثانوية السودانية في ولايات النهر (النيل والشمالية) والبحر الأحمر بما في ذلك كسلا والقضارف واستثناء الخرطوم والجزيرة وسنار وطبعا كردفان ودارفور , هذه الخطوة ترسم حدودا أولية لطموح الدولة المرجوة. هناك أيضا قرار تبديل العملة , وهو يشمل نفس الولايات ويستثني الأخريات , وهناك إجراءات خاصة بالأوراق الهجرية كشهادات المواطنة والبطاقات والجوازات والتي يستثنى من استخراجها وتجديدها المواطنون المنحدرون من بعض القبائل في دارفور وكردفان , إضافة إلى التمييز في توصيل المعونات الإنسانية القادمة من الخارج , وهناك حملات الإنتقام والتصفية والتنكيل على أسس جهوية وقبلية لبعض المواطنين في المناطق التي أعاد الجيش والمليشيات المتحالفة معه السيطرة عليها مثل بعض مناطق الخرطوم وسنار والجزيرة , مثلما هناك عمليات ملاحقة وإعتقال ومحاكمات على نفس الأسس في مناطق سيطرة الجيش ومليشياته . ترى ما الأثار المترتبة على هذه الإجراءات والقرارات من الجهة الأخرى ؟ لا أعني هنا قوات الدعم السريع ومؤيديها ولكن المواطنين الذين ربما يكون بعضهم ضد الدعم السريع ومنحاز للجيش ومليشياته أو بعضهم ضد الحرب اساسا ولا ينحاز لأي طرف فيها ويقطن في تلك الولايات المعزولة بالإجراءات والقرارات التي تنفذها سلطة الجيش من بورتسودان . فهل سيتم تكوين لجنة عليا للمعاينات على غرار لجنة إستبدال العملة , ويتقدّم المواطن لنيل حقّه في الإمتحان واستبدال العملة واستخراج الوثائق بناء على تلك المعاينات , واين ستعقد تلك المعاينات ودون وصول (طالب) للجلوس لإمتحانات الثانوية من الخوي إلى دنقلا عقبة الإدانة المسبقة بحكم قبيلته الكردفانية الديار ! هل من تفسير منطقي وموضوعي لهذه الممارسات غير أنّها تطبيق فعلي للفكرة التي يتداولها المتداولون من كتاب وصحفيين وناشطين على وسائل التواصل الإجتماعي حول بناء السودان الجديد , واسمه المقترح (دولة النهر والبحر) وهم إذ يروجون لهذه الفكرة علنا لا يعتبرون أعداء للوطن , ولا تلحق بهم صفة الخيانة أبدا , ولا يقوضون الدستور ويهتكون سُتر الدولة , لأنّ تلك الإتهامات الغليظة صممت خصيصا ضد كل من يدعو للسلام والحرية والعدالة وبناء وطن يشمل النهر والبحر والصحراء والجبل والسهول والمرتفعات , وطن مدرار بالفيهو نتساوى نحلم نقرا نداوى . لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها لكن أخلاق (الكيزان) تضيق ! .