كل شيء في سوريا المسيجة بالخوف (حتى هذه اللحظة) يبعث على الدهشة، لكنها لا تشبه أبداً الدهشة المبثوثة في أوصال نص لكاتب إسكندنافي يبدع في تصوير جد يكتشف متعة خالصة في تعليم حفيدته الصفير. الدهشة الآتية من سورية مقطبة الجبين، مغسولة بالدم، متشحة بالأضلاع المهشمة، والذاكرة المثقوبة.
منذ انفتحت أبواب السجون، في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، والقصص لا تنتهي. “السوشيال ميديا” تنقل بلا توقف حكايات أشخاص تفوق التصور. حتى إن الخيال الذي وصف بأنه أعظم مزايا الكائن، يعجز عن البيان، وربما ينعقد لسانه أمام أهوال ما يسمع وما يرى. قد يجد كتاب السيناريو في أفلام الرعب التي تسيطر على ذائقة عشاق المسلسلات والفن السابع خزاناً لا ينضب من التوحش، إن هم زاروا سوريا وسجونها، واستمعوا لروايات معتقلين لم يروا الشمس طوال 40 عاماً.
وكانت صحيفة “ديلي ميل” روت قصص معتقلات سوريات في أحد سجون حماة، تعرضن للاغتصاب مرات عديدة، وكذلك للتعذيب حتى القتل. وكانت “جريمة” إحداهن أنها قدمت مساعدات طبية للمعارضة.
“مسلخ بشري”
أما في سجن صيدنايا الذي يوصف بأنه “مسلخ بشري” فقد بلغ الرعب في أن الناس تحدثت عن طوابق سفلية أسفل السجن، وأنها مرتبطة بنظام إلكتروني ذي رموز سرية. وقد رصدت جوائز مالية بلغت إحداها 100 ألف دولار، لمن يساعد في فك تلك الشيفرة، ليثبت في ما بعد أنه لا طوابق سرية في السجن الذي قدرت منظمة العفو الدولية أن ما بين 5 آلاف و13 ألف شخص أعدموا بين سبتمبر (أيلول) 2011 وديسمبر (كانون الأول) 2015، فيما أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” نقلاً عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بأن أكثر من 100 ألف أخفوا قسراً على يد النظام، منذ 2011، وأن 85 ألفاً في الأقل من هؤلاء قد قتلوا في مراكز الاحتجاز.
وأوردت الأنباء أن العنف في مراكز الاحتجاز تلك كان مستمراً إلى الحد الذي جعل السجناء قادرين على التمييز بين أصوات الأحزمة والكابلات الكهربائية على الجسد، والفرق بين الأجساد التي يتم لكمها أو ركلها أو ضربها على الحائط.
خزانة المكتبة العربية مكتظة بالكتب والروايات التي سرد أصحابها أو كتبوا، على لسان شهود، فظاعة ما يجري في تلك السجون التي تتجسد فيها على نحو بليغ وعار “حيونة الإنسان” وهو عنوان كتاب للسوري ممدوح عدوان يشرح فيه كيف ترسخ الديكتاتورية التوحش، وكيف تخلق مضطهدين مستبدين يستمتعون، كما أفاد أخيراً سجناء ناجون، بإجبار المعتقلين على تقليد الحيوانات، كما كان يفعل ضابط يطلق على نفسه “هتلر” اعتاد أن يقيم لضيوفه عروضاً بهلوانية في سجن المزة العسكري بدمشق، يتخللها عشاء فاخر!
شيوع هذا الخبر جرى قبل أسبوع، بيد أن كاتباً سورياً يدعى زكريا تامر أدرك قبل نحو 50 عاماً كيف يتم ترويض البشر وإذلالهم وتغيير طبيعتهم البيولوجية والنفسية والعقلية. وجاءت قصص “النمور في اليوم العاشر” (صدرت عن دار الآداب 1978) بمثابة رؤيا مبكرة لمآلات سوريا، وجرس إنذار للمحاولات الدؤوبة من أجل “حيونة الإنسان” بأيدي الإنسان نفسه. كأنما في هذا “المشروع النهضوي” يتحقق شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”.
زكريا تامر استخدم الرمز في مجموعته التي تعد من العلامات البارزة في القصة العربية. لكن كتاباً آخرين اعتمدوا الحقيقة العارية في توثيق عذابات السجن الذي أضحى بلا قضبان، إما لأنه ممتد في الجغرافيا، أو لأنه أضيق من وجود قضيب معدني قد ينازع سجيناً خصصت له بلاطة من أرض المعتقل الذي يتخذ فيه المحشوون في العلبة الأسمنتية جثث زملائهم النافقين وسائد لهم!
قائمة الكتب التي تناولت مشاهدات الناجين من سجون النظام البائد، كثيرة. وكان ذلك في زمن يحاسب فيه العسس حتى على الهمس أو مجرد التفكير في نقد النظام أو المساس بـ”هيبته” لأن في ذلك تآمراً على الثورة. أما الآن فقد سقطت الأوثان، وانهارت الجدران، وأضحت سوريا مكاناً جديداً، مهما بلغ فيه السوء، فلن يصل إلى ذرة من ركام العذاب الماضي.
الآن تنفتح مغاليق علاها الصدأ طوال أكثر من نصف قرن. الآن يبدأ مشروع التدوين الأشهر في الأدب العربي الحديث. وللمرة الأولى لا يكون للأدب غاية أكثر سمواً من فضح النظام وعصاباته من أجل تقديمهم للعدالة الدولية. هذا أقل القليل، وهو بمثابة رشة ماء على حرائق القلوب السورية.
“أدب السجون” بهذا المعنى الجديد لن يكتفي بالسرد وتقنياته وتعدد الأصوات، فحسب، بل بالتوثيق المتناهي التفاصيل عما جرى في تلك العتمات المديدة. الكتابة هنا تتوخى أبعد من التعبير. إنها تدق جدران التاريخ المتكلسة، وتذكر المستقبل بأن هذا الزمن لن يعود أو غير مأذون له أو يعود، لا في سوريا ولا في أي مكان آخر.
ربما نخسر الحرب. ربما يقتطع الغزاة جزءاً من أوطاننا. ربما ينهبون بيوتنا، ويعبثون بدفاتر الرسم، وكراسات الإنشاء المدرسية. كل شيء يمكن أن يستعاد، فحركة المقاومة لن تتوقف إلا بتوقف الحياة، وانقطاع أنفاس الكتلة البشرية برمتها. ما لا يستعاد، إن هو انطفأ، هو الذاكرة. لقد ظل يتردد في أوقات الصعود الثوري: “خلي السلاح صاحي”. أما الآن فالمهمة القصوى هو أن تظل الذاكرة متيقظة، متوثبة، معافاة من النسيان والسهو. وبهذا ينتصر الضحايا.
ثمة فسحة من أمل تلوح بأصابعها المرتجفة من بعيد. ليعذرنا زكريا تامر، فلن نستسلم لنبوءته السوداوية التي أنهى بها قصته البديعة، حين كتب، “وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة”!
إندبندنت عربية
المُحبِط أن الذين يرتكبون هذه الفظائع يكونوا أول الفارين عند دك حصونهم، ولا جزاءً/عقوبةً ينالون جزاء ما ارتكبوا، وإنها بالطبع صِفة الجُبن.
أحيي في هذه العجالة الرئيس الراحل، حسني مبارك، فبالرغم من أنه كان دكتاتوراً لكنه أثبت أنه ليس جباناً ولم يرتكب فظائع في حق المعارضين لنظامه، بدليل أنه لم يهرب أو يختبيء بعد الثورة التي شُنت ضد نظامه.