في ذكرى ثورة ديسمبر.. لنتذكر حتى نتعلم (2)
عمار الباقر
في المقال الأول تحدثنا عن المرحلة الأولى من عمر الثورة المجيدة التي انتهت بتكوين حكومة الفترة الانتقالية، في هذا المقال سنتناول المرحلة الثانية التي امتدت حتى انقلاب البرهان وما تبقى من لجنة البشير الأمنية في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م. هذه الفترة وإن أردنا وصفها بشيء فيمكن وصفها بأنها فترة اغتراب من تصدوا لقيادة المشهد عن الثورة، حيث توهم من تبقي من عناصر اللجنة الأمنية وقسم كبير من قيادات المؤسسة الأمنية أنهم قد تمكنوا من تدجين الحركة الجماهيرية وقياداتها في قوى الحرية والتغيير عبر نجاحهم في فرض مبدأ الشراكة على الجميع. ساعد في ترسيخ ذلك الوهم الحديث الساذج عن عبقرية نموذج الشراكة والحديث غير الأخلاقي بدعوة الناس للتسامح وقبول الآخر في محاولة لقطع الطريق على مبدأ عدم الافلات من العقاب والقبول بفكرة تمرير جريمة فض الاعتصام وما شابهها من جرائم دون عقاب. أما على مستوى قوى الحرية والتغيير وقسم كبير من المجموعات النقابية والمدنية فقد تمثل الوهم في أنها قد تسلمت شيك على بياض من الشعب السوداني وقواه الثورية تفعل به ما تشاء حتى وإن كان ذلك التخلي عن شعارات الثورة نفسها، واعتقدت انها قد تحولت الي شريك حقيقي في الحكم، فأقدمت علي سلسلة من الاجراءات التي اصابت الثورة في مقتل وعملت علي اضعافها لحد كبير كما وضعت حداً لمستقبلها السياسي كقوى تحظى بثقة واحترام الجماهير. إن أسوأ القرارات التي قامت بها حكومة الفترة الانتقالية هي تحرير الأسعار وتعويم سعر العملة ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بصورة كارثية هددت الكثير من الأسر في مخالفة صريحة لدور الحكومة الانتقالية الوارد في البد (2) من مهام الحكومة الانتقالية حسبما هو وارد في إعلان الحرية والتغيير والمتمثل في وقف التدهور الاقتصادي وتحسين حياة المواطنين في كل المجالات المعيشية. كذلك عجزت عن توفير الخدمات الأساسية للمواطن وعلى رأسها الصحة والتعليم وتدهور مستوى معظم الخدمات مثل خدمات الكهرباء والمياه والطرق متخلية بذلك عن التزامها الوارد في البند (4) من مهام الحكومة الانتقالية في إعلان الحرية والتغيير الذي تحدث عن التزام الدولة بدورها في الدعم الاجتماعي وتحقيق التنمية الاجتماعية من خلال سياسات دعم الصحة والتعليم والإسكان مع ضمان حماية البيئة ومستقبل الأجيال. أيضاً قامت بتبني اتفاق سلام مع الحركات المسلحة قائم على المحاصصات وتوفير الامتيازات لقادة الحركات المسلحة متخلية بذلك عن شرط مخاطبة جذور الأزمة الوارد في البند رقم (1) من مهام الحكومة الانتقالية الوارد في إعلان الحرية والتغيير. أما على صعيد السياسة الخارجية فقد طبعت حكومة الفترة الانتقالية مع إسرائيل بتوقيعها على الاتفاقيات الابراهيمية وشاهدنا أحزابا عروبية تغض الطرف عن هذا التوقيع في تخلٍّ مخيف مع واحدة من أهم منطلقاتها الفكرية والايديولوجية وغضت الطرف عن وجود القوات السودانية في اليمن في انتهاك صريح للبند رقم (7) من مهام الحكومة الانتقالية الواردة في إعلان الحرية والتغيير والذي يتحدث عن بناء علاقات خارجية قائمة على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور. إن سلوك وممارسات حكومتي الفترة الانتقالية أدت إلى احساس قسم كبير من الشعب السوداني بالاغتراب عن هذه الحكومة التي أصبحت في سلوكها وادائها أقرب إلى حكومات البشير الأخيرة وهو ما أدي إلى يأس مجموعات كبيرة من قوى الثورة من الثورة نفسها وانكفأت على ذاتها بحثاً عن حلول فردية وذاتية لمشكلاتها الحياتية فارتفعت معدلات الهجرة إلى خارج البلاد كما صعد إلى المشهد عدد كبير من الانتهازيين الذين هم اليوم إما من واجهات الدعم السريع وإما واجهات اعلامية تسعى لإضفاء الشرعية علي من تبقي من عناصر اللجنة الامنية للبشير وقياداته العسكرية والأمنية في حربهم ضد ميليشيا الدعم السريع. شكل عزوف قسم من القوى الثورية عن التزام جانب الفعل الثوري وانسداد الأفق وانغلاق باب الحوار التواصل بين المجموعات الثورية على الأرض وحكومة الفترة الانتقالية إلى الدرجة التي وصل بها الحال إلى رفض رئيس الوزراء مقابلتهم ومحاولتهم اقتحام مجلس الوزراء، كارثة أصابت الفترة الانتقالية في مقتل ومنحت من تبقي من عناصر اللجنة الأمنية وقيادات المؤسسة العسكرية التابعين لهم الضوء الاخضر للانقلاب على حكومة الفترة الانتقالية والإطاحة بالحرية والتغيير مرة أخرى بعد أن أصبحت بلا سند شعبي. تلك كانت النكسة الثانية في مسيرة ثورة ديسمبر التي كادت أن تجهز عليها بيد أن جذوة الثورة لم تمت والتي كان من دروسها المريرة: الدرس الأول: على القوى الثورية أن تنظم نفسها بصورة جيدة لحراسة ثورتها ليس من المخاطر التي تأتي من معسكر الثورة فقط بل من تلك التي تأتي من داخل المعسكر الثوري نفسه، فقد أثبتت الأحداث أن الاختراق وتغبيش الوعي هو السلاح الأخطر لدى قوى الثورة المضادة وهو ذات السلاح الذي يستخدم اليوم لتفتيت قوي الثورة في ظل هذه الحرب. الدرس الثاني: إن شعارات ومطالب الثورات غير قابلة للتسويف أو إعادة الصياغة وكل من يصعد على سدة الحكم على أكتاف ثورة جماهيرية فهو أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكون أميناً علي شعارات الثورة ومطالبها وإما أن يتنحي ويفسح الطريق لآخرين من نفس المعسكر لتولي السلطة إن شق عليه تحمل الامانة. الدرس الثالث: على الحكومات الثورية أن تدرك أن الحكومات الثورية التي تصل إلى السلطة على اكتاف وتضحيات الجماهير الثورية تكون محبوبة فقط لدى تلك الجماهير، أما بقية القوى فهي دائماً ما تقف موقف المتربص في انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض عليها. الدرس الرابع: من يضع الاستراتيجيات وملامح السياسة العامة والاهداف هم قوى الثورة الحية وليس الخبراء الدوليون، ويقتصر دور الخبراء وطنيين كانوا أم دوليين على معرفة كيفية تحقيق هذه الأهداف ووضع السياسات التفصيلية لملامح السياسات والاستراتيجيات التي تضعها قوى الثورة.