حينما تصبح الهوية قيدًا تأملات في نسب شجرة الغول لعبد الله بولا

إبراهيم برسي
إن الكتابة عن بولا أو عن كتابات بولا نفسها تحتاج إلى جُرأة وشجاعة ، وقد ترددت كثيرًا في دخول مثل هذه المقامرة. وتذكرت مقولة الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي عن حتمية انتهاء القديم وصعوبة ولادة الجديد: “تتجلى الأزمة تحديدًا في أن القديم آيل إلى الزوال ، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد”
هذه المقولة تتناغم مع تأملات نص بولا ، حيث نتعامل مع صراع جاد حول الهوية ، التاريخ ، والوجود.
“نسب شجرة الغول” هو نص لا يُقرأ ، بل يُستشعر. كمن ينظر إلى مرآة غامضة تعكس ظلال الروح السودانية ، حيث تتداخل الذكريات بالجروح ، وتتمزق الهوية بين زوايا الماضي والحاضر.
عبد الله بولا لا يكتب هنا عن أزمة سياسية أو اجتماعية فحسب ، بل يتجاوز ذلك ليغوص في صميم الصراع الإنساني : صراع الإنسان مع ذاته ، مع الآخر ، ومع المعنى الذي يصنعه أو يُفرض عليه.
الغول ، الذي يتكرر ذكره في النص ، ليس وحشاً أسطورياً من خيال جمعي، بل هو استعارة حية ، مرنة تأخذ شكلاً جديداً في كل مرة تُستدعى فيها.
الغول هو الهيمنة التي تختبئ وراء الأقنعة ، حين تُحوّل التنوع إلى شتات ، وحين تجعل من الجسد الواحد عدواً لنفسه. لكنه أيضاً الموروث الذي لم يختره أحد ، الإرث الذي يُفرض علينا دون أن نستطيع التمرد عليه تماماً، تماماً كالأحلام التي تستدرج اللاوعي لتُفصح عما لا يُقال.
النص يتحدث عن السودان لكن السودان هنا ليس مجرد بلد ، بل هو صورة مصغرة للإنسانية في صراعها الأبدي مع الاختلاف. التنوع الثقافي الذي كان يمكن أن يكون ثروةً ، تحوّل بفعل سياسات الهوية المهيمنة إلى عبء يثقل كاهل البلاد. ليس هذا صراعاً بين الهامش والمركز فقط؛ إنه صراع بين الأصوات التي تريد أن تتنفس ، وبين سلطة تصر على أن تُعيد تشكيل كل ما حولها وفق صورتها الخاصة.
لغة عبد الله بولا تلتف حول القارئ كنسيم خفيف يخفي وراءه عاصفة. اللغة هنا ليست حيادية ؛ إنها السلاح ، الساحة ، والجائزة.
اللغة العربية ، بتغلغلها في المؤسسات التعليمية والإدارية ، أصبحت كما يبدو في النص “اللغة السيدة”، بينما صارت اللغات الأخرى أصواتاً باهتة ، مقيدة بالسياقات الخاصة ، محرومة من الحضور الرسمي. لكن ، كما أن الحلم يُظهر المكبوت ، فإن النص يكشف عن مقاومة خفية ، عن تلك الهويات التي لم تمت ، بل تنتظر لحظة استعادة صوتها.
التاريخ في “نسب شجرة الغول” ليس سلسلة أحداث متتالية ؛ إنه كيان حي يتنفس في كل زاوية من النص. يكتب عبد الله بولا عن الماضي لا ليفسره، بل ليحاكمه ، ليعيد سؤاله عما فُعل باسمه.
الهوية السودانية ، كما تبدو في النص ، ليست حقيقة ثابتة ، بل مشروعاً قيد التفاوض ، مشروعاً حاولت الهيمنة أن تحسمه لصالح سردية واحدة ، لكنها لم تفلح سوى في ترك جراح أعمق.
وهناك المثقفون. أولئك الذين كان يُفترض أن يكونوا حراس الوعي ، لكنهم ، كما يصوّرهم النص وقعوا في فخ إعادة إنتاج الهيمنة.
في لحظات عديدة ، يبدو النص كأنه حوار داخلي ، حيث يتساءل الكاتب : كيف يمكن لمن يفكر أن يكون أداة في يد من يقمع التفكير؟ .
المثقف هنا ليس مجرد فرد ، بل رمز لصراع أوسع: بين الفكر المستقل والسلطة التي تحاول أن تروضه.
ثم يأتي التحليل النفسي للهوية. في النص ، الهوية ليست شيئاً نملكه ، بل شيئاً يُفرض علينا. الهوية العربسلامية ، كما يصورها النص ، ليست مجرد اختيار ، بل سلطة تحاول أن تُقصي كل ما لا يتماشى معها. إنها أشبه بظل طويل يخفي تحته التنوع ، لكنه لا يستطيع محوه تماماً.
هذا الصراع بين المركز والهامش ، بين اللغة السيدة واللغات المكبوتة، بين الماضي الذي يُعاد إنتاجه والحاضر الذي يبحث عن مخرج ، هو ما يمنح النص قوته الفلسفية العميقة.
لكن النص ليس اتهاماً فارغاً ؛ إنه أيضاً دعوة للتأمل. عبد الله بولا لا يقدم حلولاً جاهزة ، لكنه يفتح نافذة على احتمالات جديدة. يدعو إلى القبول ، ليس بمعنى الخضوع ، بل بمعنى المصالحة مع الذات المتعددة ، مع السودان كما هو، لا كما تريده السلطة أن يكون. النص يدعو القارئ إلى التوقف عن البحث عن إجابات سهلة ، وإلى مواجهة التعقيد بجرأة.
“نسب شجرة الغول” هو نص يرقص على حافة الكلمة ، يحفر في عمق المعنى ، ويترك القارئ مسكوناً بأسئلة لا تنتهي. إنه كمن يسير على حبل مشدود بين الحلم واليقظة بين الواقع والممكن ، بين الذاكرة والنسيان. وفي النهاية ، ربما لا يكون الغول إلا نحن ، حين ننسى حين نتجاهل ، وحين نستسلم للهيمنة بدلاً من أن نقاومها.