السودان .. الرحيل المر !!

* سهرتُ ليلة بحالها فى تطييب خاطر احد الاصدقاء بأن (البلد لسة بخير، والناس الكويسين موجودين) إلا أننى فشلت وذهبت كل الدلائل والأمثلة التى ضربتها أدراج الرياح.
* حدثته عن شخص لا ينام الليل الا بعد أن يطمئن على جيرانه، يواسى المريض، يغيث المحتاج يخفف لوعة المهتاج بلا من ولا رياء، يصادق الكل، يحترم الكبير ويحنو على الصغير، ويحبه الجميع ، ولقد احتذى به الكثيرون، أليس هذا دليلا على أننا (لسة بخير)؟
* حكيت له قصتى فى سوق أم درمان عندما هممتُ بدفع قيمة الأغراض التى اشتريتها فاكتشفت أننى نسيت محفظة نقودى فى المنزل، إلا أن البائعة الشابة التى لا تعرفنى ولم ترنى من قبل، أصرت أن أحمل ما اشتريت واحضر لتسديد الحساب فيما بعد، وعندما قلت لها مداعبا “وإن لم أحضر” ، قالت بكل شهامة وطيب خاطر (عافية ليك).
* حدثته عن الشاب الذى ترجل عن دراجته المتهالكة تحت وهج الشمس ليساعدنى فى استبدال إطار العربة، وعندما أدخلت يدى فى جيبى لاعطيه بعض المال قال بكل تهذيب ( لا يا حاج، ما مستاهلة)، ثم ركب دراجته وذهب.
* قلت له إن شيخا طاعنا فى السن لا أعرف أين يقيم، يأتى الى الحى الذى اقيم فيه كل اسبوع وينظف محيط منزلى ويستحى أن يطلب الأجرة إلا إذا رأيته وأعطيته بعض المال فيأخذه شاكرا وداعيا لى بالخير، بدون أن يعرف كم أعطيته!!
* قلت له كل ذلك وأكثر، ولكنه كان مصرا على أن (البلد انتهت، والناس أخلاقهم ماتت)، وبعد بضعة ايام اتصل بى وقال انه عائد الى نيران المنفى، فهى أفضل من جحيم الوطن .. وبالأمس ودعنا ورحل !!
* إلتقيت به فى جامعة الخرطوم منذ ثمانية وثلاثين عاما مع ثالث لنا، وصرنا (روح واحدة ) فى ثلاثة أجسام، بل صرنا روحا واحدة فى جسم واحد حيث لم نكن نفترق أبدا .. ندرس ونأكل ونلعب ونسهر وننام ونصحو مع بعض الى أن تخرجنا، ثم عملنا مع بعض، وتشابكت علاقتنا الاسرية، وعشنا حلو الحياة ومرها مع بعض، وعندما إضطررنا للبحث عن وطن آخر، وبقى ثالثنا فى الخرطوم، ظلننا أيضا مع بعض.. بأرواحنا وعقولنا وما تيسر من وسائل الاتصال الحديثة وكنا نلتقى با مدرمان مرةكل عام وما أروعه من لقاء يعجز القلم عن ترجمته الى كلمات، وظللنا هكذا من عام الى عام .. حتى جاء هذا العام الذى انقلب فيه كل شئ !!
* قبل أن يأتى الى السودان هذا العام قال لى إنه (زهج من الغربة) وينوى العودة للاستقرار فى الوطن فشجعته على ذلك، لأن نفس الفكرة كانت تدور بخاطرى، ثم عدنا، وبعد بضعة ايام طرق بابى ودخل ليحدثنى بحزن شديد إن الجامعة التى أسهم فى تأسيسها وأمضى فيها أحلى سنوات العمر، إعتذر له صاحبها ورئيسها (وهو صديق له) عن عدم وجود وظيفة شاغرة بها، وذلك بايعاز وتحريض من شخص لا يحبه، يقرب لرئيس الجامعة ويشغل منصب الوكيل وهو لا يحمل سوى شهادة الدبلوما المتوسطة فقط. هونتُ عليه وقلت له “مليون جامعة تتمناك”، قال إنه يعرف، ولكنه متألم فقط أن يكون الجحود قد وصل الى هذا الحد !!
* وعلى مدى يومين او ثلاثة بعد ذلك، ظللنا فيها قريبين من بعض، لاحظنا أن الكثير من التغيير قد طرأ على الناس، صاروا مهمومين وساهمين وواجمين، ومنغلقين ومشغولين بأنفسهم .. كأنهم فاقدو الذاكرة أو فى حالة حوار أبدى مع النفس، واختفى من عيونهم بريق الحياة، ولكننا لم نأبه بذلك فلقد كنا واثقين أن توأم روحنا الثالث الذى لم نلتق به بعد لوجوده خارج المدينة سيبدد كل تلك الاوهام التى تدور فى رؤوسنا، ثم سمعنا انه وصل الى الخرطوم، وانتظرنا اتصاله كما اعتدنا وعندما لم يفعل اتصلنا به، فرحب بنا ولكننا أحسسنا أن الترحيب لم يكن كما فى كل مرة، (والسلام بارد)، فأصابتنا الحيرة ولكننا قدمنا حسن الظن، إلا أن حيرتنا تأكدت عندما اتصل بنا شخص نعرفه (ولكنه بعيد عن ثلاثتنا) ليقول انه مكلف بدعوتنا الى عشاء بمنزل صديقنا، وكانت صدمة قاسية لكلينا ..( شخص بعيد يدعونا الى عشاء بمنزل صديقنا؟) ما الذى جرى فى الدنيا .. هل هذه هى (آخرة) اربعين عاما عشناها لحظة بلحظة معك يا صديق العمر لتأتى أخيرا وتكلف شخصا غريبا ليدعونا الى منزلك الذى عشنا فيه أحلى أيام العمر، ما الذى يحدث فى بلادنا يا رب؟!
* كانت آخر كلمات قالها صديقى بالمطار وهو يغادر الخرطوم الى الابد وفى عينيه انهار من الدموع ” إذ كان أعز صاحب عندك بيعمل كده، والزول الأسست معاهو الجامعة وشقيت معاهو بيعمل كده، والإتنين أولاد ام درمان، تانى فى شنو حيكون كويس؟”
الجريدة
[email][email protected][/email]
اولا اشكر ادارة الراكوبة لاتاحتها لى فرصة التعليق
لاحول ولا قوة الا بالله
لكن برضو الخير موجود فى بعض السودانيين
صدقني تور له الف حق شخصيا لم يحدث ذلك لاننا حسمنا باكرا وتنبات بذلك لوالدي اطال الله عمره منذ1972وانا بالجامعه وكان الوالد مغتربامنتدبا فقلت له لا تعد بعد الانتداب وعليك اخذ سنتين اضافيه حتي نتمكن من بناء ارض الرياض التي وقعت له ضمن كبار الموظفين لكنه رفض مدعيا بان افضل استثمار هو فينا فقلت له 1972اننا سندخل ازمة اقتصادية فتعجب وعاد لكنه رجع الي الغربه جبرا عام 1980ليبني الارض وعاد1990وحرجت انا معه 1980الي ليبيا ثم عدت1985وحرجت1987والي الان تصور ان محنتنا عظيمة لم نقرأ احوالنا جيدا كما قال الطيب صالح ان خروج الاغاريق والاقباط ليس دليل عافية الي جرج الناس ونالوا عدد من الجنسيات بلادنا طردتنا يا سيدي وابقت الغرباء!!!
الاخ العزيز والصديق زهير .. صدقني اول مره اضطر اقرا مقال لمرتين علي التوالي ودون فاصل زمني ولكني تعايشت مع بعض مظاهر هذه الازمة باكرا ولا يدهشني تبدل الحال والمال وطمس معالم الصداقة التي تصل لهذا الحد من المشاركة.
مرة وانا اتجول في السوق العربي وذلك عقب اخلاء سبيلنا من خلال كشوفات الصالح العام الشهيرة وكنت لسنوات من متابعي قراءة الراي الاخر ايام سطوتها ومهابة السلطة لها وكنت اول ما اقرا فيها مقال الاستاذ زهير السراج وغالبا ما تكون صورته اعلى العمود وبالاعتياد اصبح الوجه مالوف وفي ذلك اليوم مر شخص مربوع القامة اقرب للبدانه بدا لي وجهه مالوفا فسلمت عليه بحرارة شاحذا الذاكرة ان تسعفني من هو من معارفي وحينما استدركت الامر ان هذا الشخص هو السراج ليس احد غيرة ازدادت حرارة تحيتي وربما هو استدرك الامر ولم يحرجني فكبر مقاما عندي .. التحية له
ما كل الذي يلمع ذهبآ يا ( زيزو ) .. و بكرة أحلي ان شاء الله .