مقالات وآراء

تعيسة : رواية الإنسان والمكان في رحلة البحث عن الذات

إبراهيم برسي

 

في رواية “تعيسة” للدكتور بشرى الفاضل ، يُفتح العالم كصفحة من الرمال المتغيرة ، بلا معالم واضحة ، إلا تلك التي ترسمها أقدام التائهين وأحلامهم.

الهروب هنا ليس مجرد فعل جسدي ؛ بل هو محاولة يائسة لإعادة صياغة الحياة خارج حدود القهر والتاريخ.

سعيد وبخيت ، بحملهما المتناقض لعلاقة السيد والعبد ، يشكلان محوراً إنسانياً يتقاطع فيه الماضي مع الحاضر ، القهر مع المصالحة ، والإنسان مع ذاته المنكسرة.

 

تعيسة ليست شخصية عابرة ؛ إنها أيقونة للإنسان في عزلته المطلقة ، كائن تتجلى فيه هشاشة الحواس وقوة الروح.

ولدت عمياء ، صماء ، وبكماء ، ومع ذلك يشع منها جمال يعجز العقل عن تفسيره.

يقول الراوي عنها :

“كان وجهها على الدوام باسماً ، مشرقاً، يشعُّ منه النور بحيث يصعب التمعن فيه”.

 

هذا الجمال الغريب لا يوحي فقط بالمفارقة ، بل يعيد صياغة مفهوم الجمال ذاته.

تعيسة ليست كائناً إنسانياً بالمعنى التقليدي ، بل هي انعكاس للوجود في شكله الخام ، حيث تتحول إلى مرآة تعكس رعب الآخرين من الاختلاف.

فهؤلاء الذين يظنونها “ابنة الجن” ليسوا سوى ضحايا لرغبتهم في تصنيف ما لا يمكن تصنيفه.

بهذا ، تتحول الرواية إلى نقد صامت للخوف الجماعي من الآخر ، وتذكير دائم بأن ما نخشاه قد يكون تجسيداً لما نفتقده.

 

الصحراء ، التي تمتد كأفق بلا نهاية ، ليست مجرد خلفية للأحداث ، بل هي كيان حي ، نابض ، يبتلع كل شيء ويعيد تشكيله.

يقول الراوي عن الرمال :

“رمال في رمال في رمال. كأن الرمال ابتلعت كل شيء ، حتى القبور التي حفروها سرعان ما غمرتها الرياح ، وكأن شيئاً لم يكن” .

 

الرمال هنا ليست سوى الزمن ، ذلك العدو الأبدي الذي يمحو آثارنا ويعيد ترتيبها بعبثية مطلقة.

في هذا العالم المتغير ، يصبح كل شيء هشاً ، بدءاً من الهوية وصولاً إلى القيم.

سعيد ، الذي يبدأ رحلته كسيد هارب من قهر الخارج ، يجد نفسه محكوماً بمواجهة الداخل. وبخيت ، الذي عاش حياة العبيد ، يدخل الواحة ليصبح شريكاً في إعادة بناء ما تحطم ، لكنه يبقى مسكوناً بشعور دائم بالدونية.

 

العلاقة بين سعيد وبخيت تتجاوز حدود الفرد لتصبح استعارة عن التاريخ نفسه. يقول سعيد لبخيت :

“نحن هنا بقينا أهل. بعد نعدل حالنا في بلدنا الجديدة دي ، نزوج أولادك لي بناتي” .

 

هذه العبارة تبدو كإعلان للمصالحة ، لكنها تحمل في طياتها عبء الماضي الذي لا يموت بسهولة. فرح بخيت بالعرض ، لكنه في داخله ظل أسيراً لذكريات القهر.

هنا ، تظهر الرواية كفحص عميق للمصالحة الحقيقية ، تلك التي لا تُبنى على الأفعال وحسب ، بل على تحولات داخلية شاقة.

 

تعيسة ، الحاضرة الغائبة ، تظل القلب الصامت للرواية. هي ليست مجرد شخصية ، بل استعارة للوجود الإنساني في أشكاله المتعددة.

يقول الراوي عنها :

“ثمة كُحْلٌ دون كُحل في أهداب عينيها. ثمة حاجبان كأنهما خرجا للتو من أيدي خبيرة تجميل ماهرة” .

 

هذا الجمال المدهش الذي لا ينتمي لأي معيار تقليدي يرمز إلى الغموض الذي يكتنف الوجود الإنساني ذاته. هي ليست فقط رمزاً للجمال ؛ بل هي دليل على أن الحياة في صمتها قد تحمل معاني تفوق ما نراه أو نسمعه.

 

موت سعيد في نهاية الرواية هو لحظة محورية. في تلك اللحظة ، يغلق بخيت عيني سيده القديم للمرة الأخيرة. هذا الفعل البسيط يحمل رمزية ثقيلة ؛ إنه موت السيد القديم ، لكنه أيضاً ولادة عهد جديد.

الصمت الذي يخيم بعد موت سعيد ليس مجرد حداد ، بل هو فراغ وجودي يدعو القارئ للتأمل : هل يمكننا حقاً دفن الماضي؟ أم أننا نحمله معنا، حتى ونحن نبني عوالم جديدة؟ .

 

“تعيسة” ليست مجرد رواية عن الحزن بل هي قصيدة عن الجمال الذي ينبعث من قلب العزلة. إنها لوحة أدبية تتجاوز الكلمات لتخلق فضاءً مليئاً بالتساؤلات التي تظل دون إجابة.

بشرى الفاضل ، بلغته الشعرية العذبة ورؤيته الفلسفية العميقة ، يحول الصحراء إلى رمز للإنسان في سعيه الدائم نحو الفهم.

الواحة ، التي تبدأ كملاذ ، تتحول إلى استعارة عن الروح البشرية التي تبحث عن السلام ، حتى وهي محاصرة بالخوف والذكريات.

 

في نهاية المطاف ، “تعيسة” ليست عن التعاسة ، بل عن الأمل الذي يزهر في أصعب الأماكن.

إنها تذكير بأن الجمال قد لا يكون في الضوء ، بل في الظلال ، في الصمت ، وفي تلك المساحات الصغيرة بين ما نعرفه وما لا نستطيع إدراكه.

 

[email protected]

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..