حول مبادرة الحزب الشيوعي لوقف الحرب

د. أيمن بشرى
حسناً فعل الحزب الشيوعي السوداني اذ طرح مبادرة اسماها مبادرة لوقف الحرب. فهذا فعل قد حرك بعض المياه الراكدة حول المبادرة الوحيدة الاخرى لوقف الحرب ، الا وهي مبادرة تقدم. ولا يبدو جلياً للمتابع إذا ما أتت مبادرة الحزب الشيوعي بعد اصطدام مسعاهم باستصدار قرار من مجلس الأمن بالڤيتو الروسي ، أم أن الحزب الشيوعي استبصر مسبقاً مآل ذلك المسعى بما يمتلكه من أدوات تحليل.
بيد أن مبادرة الحزب الشيوعي بها كثير من النقاط التي تستحق التعقيب ، كما دعت اليه المبادرة نفسها. كما أن المبادرة بها برنامج لما بعد الحرب يسهل الاتفاق حول معظم نقاطه من قبل اغلب السودانيين.
هذا التعقيب يأتي بالرغم من قناعة كاتب هذه السطور من أن المدنيين لا يمكنهم إيقاف حرب قائمة وهم لا يملكون سيطرة حقيقية على الجيوش التي تقاتل. ولكن يمكن أن يكون للمدنيين ادواراً فعّالة جداً في تخفيف آثار الحرب ووضع تصورات لبرامج وطنية تمنع عودة الحرب متى ما وضعت هذه الحرب أوزارها. فشعار “لا للحرب” يقوم على مقارنة فاسدة مع حروب أخرى مثل حرب ڤيتنام ، الحرب الأهلية الليبيرية وغيرها. يعود شعار “لا للحرب” إلى حرب ڤيتنام (١٩٥٥م – ١٩٧٥م) والتي كانت بين شمال ڤيتام تساندها الكتلة الشيوعية (الاتحاد السوڤييتي والصين) وجنوب ڤيتنام تساندها الولايات الأمريكية المتحدة وحلفاؤها. انتظمت في الولايات المتحدة الأمريكية حملة شعبية مناهضة للحرب أدت إلى ارتفاع نسبة الرافضين للحرب من ثلث الشعب الأمريكي في بداية الحرب إلى الثلثين ، مما ساعد في انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب وتبعاً لذلك انتصرت ڤيتنام الشمالية. ولكن هناك فروقات جوهرية في “لا للحرب” الأمريكية ، أولها أن الحكومة الأمريكية والمشرعين في الكونجرس أتوا بطريقة ديمقراطية تتأثر برأي الناخب وتوجهاته ، وثانيها ان الحرب كانت تدور في بلادٍ بعيدة ، مما أتاح لوسائل الاعتراض التي يضمنها الدستور من تظاهرات ، احتفالات ، مهرجانات وغيرها من الفعاليات من الحدوث في أرض الوطن مما أدى إلى تأثير واضح على المواطنين والسياسيين كليهما وثالثها أن الولايات المتحدة الأمريكية كان يمكنها إيقاف مساهمتها في الحرب بقرار يصدر منها منفردة ، وهو ما حدث فعلياً. انتفاء جميع هذه العوامل الثلاثة من الوضع في السودان يجعل افتراض امكانية تمكن “لا للحرب” السودانية ضرباً من الخيال ، خاصة إذا طرحت القوى المدنية تصورات محددة لما بعد الحرب ، تتعارض بالضرورة مع تصورات أحد أو كلا الاطراف الحاملة للسلاح. كما تلعب المرحلة الزمنية للحرب أو التوقيت الذي يجتهد فيه المدنيون دوراً اساسيا في امكانية النجاح.
وهنا لا يجب الخلط بين الرغبة الحقيقية للغالبية العظمى من البشر في السلم ، وهي رغبة نابعة من حوجة غريزية للأمن ، بل هي حوجة تأتي مباشرة بعد الاحتياجات الفسيولوجية من أكل وشراب في تراتيبية الاحتياجات الإنسانية كما وضح ماسلو (Abraham Maslow, (1943. الخلط بين شعار “لا للحرب”. فهو شعار سياسي لا يكتفي فقط بالمطالبة بإيقاف الحرب ، ولكنه يضع تصوراً سياسياً محدداً لكيفية إنهاء الحرب وبناء سودان ما بعد الحرب. الاختلاف مع شعار “لا للحرب” كله أو بعضاً منه ، لا يجعل المختلف بالضرورة داعياً للحرب أو لاستمرارها. وهذا تصوّر تم استخدامه لتحجيم دعاة الحرب ، ولكن الطريقة التي تم بها ، زاد من الاستقطاب الحاد الذي خلقته الحرب في المجتمع السوداني.
١- إشكالية الترقيم
تحوي المبادرة على كثير من المواضيع التي يصعب على أكثر الناس تأييداً لها الاتفاق حولها كلها كما يصعب على أكثر الناس رفضاً لها الاختلاف معها كلها ، لذلك كان من المجدي ترقيم النقاط المختلف بشكل جيد يتيح للمعقبين تحديد النقاط المراد نقاشها ، كما سيتضح لاحقاً.
٢- إشكالية تعريف الحرب في السودان
وردت في إحدى الفقرات (والتي لا استطيع تحديدها في المبادرة لعدم وجود ترقيم) الى ان المبادرة تسعى لمنع انزلاق الحرب الى حرب اهلية. وهذا يعني ان الحزب الشيوعي يعرف الحزب الشيوعي يعرف الحرب على انها ليست حرباً اهلية.
وقد دار حوار في أحد منصات الحزب الشيوعي في منصة كلوب هاوس حول اشكالية تعريف الحرب هذه. كان تركيز المتداخلين عموماً يدور حول مدى مساهمة المجموعات القبلية او المواطنين في الحرب ، بينما تساءل البعض عن جدوى تعريف الحرب بالأساس.
أ. أهمية تعريف الحرب :
١. الحروب جزء أساسي في تاريخ البشر. بتحديد تعريف محدد للحرب يسهل التعرف على التجارب البشرية المشابهة والإستفادة منها. وهناك عشرات المقالات الاكاديمية عن الحروب الأهلية.
٢. يستخدم العالم (الدول ، المؤسسات الدولية والإعلام الأجنبي باللغات غير العربية) صفة (حرب أهلية) على هذه الحرب القائمة ، وافتراض أن هناك دوافعاً خبيثة وراء اطلاق هذه الصفة على الحرب قد يسبب قلقا نفسيا أو قد يقود الى تحليلات خاطئة.
ب. تعريف الحرب الأهلية :
الحرب الأهلية (civil war) تعرّف بأنها حرب بين مواطني الدولة الواحدة ، و civil war نفسها أتت من اللغة اللاتينية حيث حدثت حروب أهلية داخلية في الإمبراطورية الرومانية (أو الجمهورية الرومانية ، لأنها صارت امبراطورية فيما بعد ، بعد أن انقلب القائد العسكري يوليوس قيصر على الحكم واعلن نفسه ديكتاتوراً مدى الحياة). باللاتيني سميت ب bellum civile. وcivile هذه نسبة ل citizin وتعني مواطن.
للحرب الأهلية سمات تميزها عما سواها من الحروب. اتفاق الباحثون على سمات محددة يساعد على حصر هذه الحروب بغرض الدراسة والمقارنة. وقد تم تعريف قرابة ال ٣٦٠ حرباً منذ الحرب العالمية الثانية بأنها حروباً اهلية :
١- الحرب تدور داخل حدود الدولة (intra-state). وهذا الشرط لا ينتفي بوجود دعم خارجي لأحد أطراف الحرب. في الواقع ، فان ثلثي الحروب الأهلية بعد الحرب العالمية الثانية كانت فيها تدخلات أجنبية. ويعتبر هذا التدخل عاملاً مهما في اطالة مدى الحرب في المتوسط من سنتين قبل الحرب العالمية الثانية الى اربعة سنوات بعدها.
٢- الحرب تدور بين قوتين مسلحتين منتظمتين (organised armed groups).
٣- الجيش الرسمي للدولة يشكل أحد الأطراف المتقاتلة
٤- للحرب أهداف تتعلق بتغيير نوع او ايديولوجية القيادة المركزية للدولة او أهداف تتعلق بحقوق احد اقاليم الدولة
٥- عدد القتلى جراء العمليات القتالية تجاوز الألف قتيل في السنة
لا يشمل تعريف الحرب الأهلية الانتماءات الإثنية والقبلية للمتقاتلين. ولكن معلوم أن كثير من دول العالم الثالث والتي لم تتشكل بصورة طبيعية وإنما شكلها الاستعمار بها اثنيات وثقافات متعددة ، مما يجعل حتى التنظيمات السياسية في حالة السلم تتصف بصفة الإثنية والمناطقية. ويكون عندها بدهياً انجراف الصراعات السياسية المسلحة لصراعات إثنية.
هذا لا يتعارض مع حقيقة مفادها أن الحروب الأهلية، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة ، شهدت تزايد إشتراك المدنيين بصور شتى ، منها كمقاتلين ، كداعمين لأحد الأطراف ، كضحايا وكباحثين عن السلام.
٣. في خلط أهداف وقف الحرب مع أهداف التحول الديمقراطي:
توسعت مبادرة الحزب الشيوعي في نقد فترة الانتقال ما بعد سقوط البشير ، كما أسهبت في تفصيل برامج ما بعد الحرب ، ولكنها لم تأتِ إلا بمجرد تلميح مقتضب للآلية المفترضة لوقف الحرب. هذه الآلية تتمثل في الاقتباس الآتي (النضال المشترك وسط الجماهير لتنظيمها ورص الصفوف لإجبار طرفي الحرب وحلفائهم الخارجيين على وقف الحرب ، واسترداد الثورة بمضامينها التي تتجاوز مسار الأزمة العامة).
انتهى الاقتباس.
لم توضح المبادرة الكيفية التي تمكن مواطنين سلميين لا يستطيعون حتى التعبير عن آرائهم بالمظاهرات أو أي وسائل أخرى داخل أرض الوطن دون الإتهام بموالاة أحد أطراف الحرب ، من الضغط على الأطراف المتحاربة بوقف الحرب. وهذه هي نفس الإستراتيجية التي انتهجتها “تقدم” وأضافت إليها الاستعانة بالمجتمع الدولي وهو الأمر الذي استنكرته المبادرة. وقد استرجع البعض تاريخ السودان المعاصر ، والذي تمكن فيه السودانيون من اقتلاع ثلاثة ديكتاتوريين من سدة الحكم.
وهذا استرجاع ليس في محله. فقد أثبتت الدراسات أن حجم الكتلة الحرجة المطلوبة للإطاحة بنظام ديكتاتوري ، لا تتجاوز ال ٣ – ٥٪ من عدد السكان ، وهذا ما حدث فعلا في أجزاء كثيرة من العالم ومن ضمنها انتفاضتنا الثلاثة السابقة. ليس هناك حسب اطلاعنا ما يثبت أن الحراك الشعبي قد اوقف حرباً اهلية وهي في عنفوانها (وهنا تأتي أهمية تعريف الحرب هذه). حتى الحرب الأهلية في ليبيريا والتي اشتهرت بمساهمة النساء فيها ، مما ساعد في إنهاء الحرب (حازت قائدة النساء ليمه روبرتا قبويي على جائزة نوبل للسلام في عام ٢٠١١م لدورها) ، تغفل عن أن حرب ليبيريا كانت قد استمرت لمدة أربعة سنوات (١٩٨٩م – ٢٠٠٣م) ، كما ان حركة النساء كانت تضع وقف الحرب كغاية في حد ذاتها ، مما جعلها محايدة في نظر المتحاربين. وقد رفض النساء ممارسة الجنس كسلاح للضغط على الرجال لقبول وقف الحرب وكذلك هددن بخلع ملابسهن ، وهذه أشياء يتعذر اتخاذها في محتمع مسلم كالمجتمع السوداني.
رغم ذلك ، فإن المقارنة مع حالة ليبيريا جديرة بالدراسة للبحث عن عوامل النجاح. وهنا تحديداً ، يجب إخضاع فكرة تمرير برامج وسياسات لما بعد الحرب كشرط لإيقاف الحرب لدراسة متأنية تأخذ في الاعتبار خطورة وضع تلك البرامج في زيادة حالة الانقسام المجتمعي (polarization) من ناحية ، والتأثيرات النفسية للمتحاربين من ناحية أخرى.
وهذا ليس تقليلاً من أهمية تلك البرامج في حد ذاتها ، فهي برامج لن يستقيم مستقبل البلاد بدونها. ولكننا نبحر في بحرٍ هائج بالأحداث ، يتطلب الإبحار في أمواجه الإستعانة بكل تاريخ البشرية وتجربتها وبشتى العلوم.
ومن الأفضل للقوى السياسية للسودان ككل السعي لإيقاف الحرب دون شروط مسبقة. يجب أن يكون السلام هو الغاية الأساسية ومتى ما تحقق السلام سيسهل الإتفاق على ما عداه من المشاريع المستقبلية.