مقالات وآراء سياسية

الزيارة الأوروبية لدمشق  : بداية جديدة أم لعبة مصالح خفية؟

أبوبكر عبدالله

 

في تطور مفاجئ على الساحة الدبلوماسية زارت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ونظيرها الفرنسي جان نويل بارو العاصمة السورية دمشق ، في أول زيارة رفيعة لمسؤولين أوروبيين منذ سقوط نظام بشار الأسد. هذه الخطوة تحمل دلالات رمزية وسياسية لها ما بعدها ، حيث تشير إلى بداية تحول في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا الجديدة ، وسط تساؤلات عن مدى تأثيرها على المشهد السياسي والاقتصادي.

 

أكد الوزيران خلال زيارتهما على ضرورة تحقيق انتقال سلمي للسلطة في سوريا ، مع التأكيد على دعم الشعب السوري بكل أطيافه. زيارة سجن صيدنايا ، أحد أبرز رموز القمع في عهد النظام السابق ، أضافت بعدًا حقوقيًا مهمًا للزيارة ، حيث شدد المسؤولان على ضرورة محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب.

 

هذه الرسائل تعكس رغبة أوروبية في دعم عملية انتقال سياسي تضمن الاستقرار الإقليمي وتفتح الباب أمام علاقات جديدة مع الإدارة السورية. لكن في الوقت ذاته ، تثير هذه الرسائل تحفظات داخلية وخارجية ، حيث يخشى البعض أن تتحول إلى أداة ضغط سياسي أكثر منها إلى شراكة حقيقية.

 

الزيارة أثارت موجة من الآراء بين السوريين. هناك من يرى فيها بداية لفصل جديد يمكن أن يحقق الاستقرار وإعادة الإعمار ، مع تعليقات تعكس شعورًا بالتحرر من “السجن الكبير” الذي عاناه الشعب لعقود.

 

لكن في المقابل ، هناك أصوات متحفظة تطرح تساؤلات حول نوايا أوروبا خاصة مع تصريحات تناولت عدم دعم “الهياكل الإسلامية”، ما أثار مخاوف بشأن احترام الهوية السورية. كما عبّر آخرون عن قلقهم من أن الزيارة تحمل معها رسائل تعالي ووعود محدودة ، مع التركيز على التعامل مع الأقليات الدينية ، خصوصاً المسيحيين ، مما يعكس نقطة ضعف في السياسة الأوروبية تجاه المجتمع السوري بشكل شامل. هذا الجانب يثير بعض الشكوك حول دوافع الزيارة وما إذا كانت تستهدف بناء علاقات جديدة أو مجرد سياسة استفزازية.

 

تعليقاً على هذه الزيارة ، قال الدكتور محمد مختار الشنقيطي ، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة قطر “‏في زيارتهما لدمشق صرحت وزيرة ‎الخارجية الألمانية بأن أوروبا “لن تمول هياكل إسلامية” ، وحضت على عدم إقامة “حكومة إسلامية”! وصرح رفيق سفرها ، وزير الخارجية الفرنسي ، بأن بلاده تدعم المسيحيين السوريين وطالب بتدمير السلاح الكيماوي السوري. فهي هذه زيارة دبلوماسية أم ابتزاز وحملة صليبية؟!”.

 

من جهته ، يرى محمد رجائي بركات ، خبير الشؤون الأوروبية ، أن أوروبا تخشى من تداعيات أمنية محتملة في سوريا ، خاصة مع تصاعد التوترات في شمال شرق البلاد. وأكد جمال السويدي ، المحلل السياسي ، أن الزيارة تعكس تحولًا استراتيجيًا أوروبيًا يُعيد صياغة العلاقات مع سوريا الجديدة ، ولكن ضمن معادلة دقيقة توازن بين المصالح الدبلوماسية وضمان الاستقرار الإقليمي.

 

ورغم الإشارات الإيجابية ، يواجه الانتقال السياسي في سوريا تحديات معقدة تتجاوز تحقيق توافق سياسي إلى معالجة انقسامات مجتمعية عميقة وإعادة بناء الثقة بين الأطياف المختلفة. نجاح هذا الانتقال يتطلب اقتصاداً متعافياً يخفف معاناة المواطنين ، ونظاماً سياسياً عادلاً يضمن التمثيل الشامل ، وأمناً مستداماً يضع حدًّا لفوضى السلاح والمناطق الخارجة عن السيطرة. كما أن الحد من التدخلات الإقليمية والدولية ، وإدارة تأثيرها على مستقبل البلاد ، يشكل ضرورة لضمان سيادة حقيقية واستقرار طويل الأمد.

 

الجدير بالذكر أن استقطاب الاستثمارات الأوروبية لإعادة الإعمار في سوريا يواجه تحديات كبيرة مرتبطة بالعقوبات الدولية والمصالح المتضاربة للدول المؤثرة مثل تركيا وروسيا وإيران. لكن الأبعاد التي تكتنف هذا الملف تتجاوز مجرد الجانب الاقتصادي ، حيث تسعى أوروبا إلى توظيف الدعم كأداة استراتيجية لفرض أجندات سياسية محددة. من خلال ربط الدعم الاقتصادي بشروط قاسية ، مثل دفع عملية الإصلاح السياسي وتعزيز الديمقراطية بما يتماشى مع رؤيتها. قد تهدد هذه الأجندات استقلالية القرار السوري وتزيد من تعقيد الانتقال السلمي والعدالة الانتقالية في البلاد.

 

الزيارة الأوروبية لدمشق تُعد خطوة رمزية تحمل آمالًا كبيرة وتفتح نقاشًا واسعًا حول مستقبل سوريا. لكن السؤال الذي يبقى معلقًا : هل ستكون هذه الخطوة بداية لمرحلة جديدة من السلام والاستقرار، أم أنها ستبقى مجرد محاولة حذرة وسط مشهد سياسي معقد؟ .

 

الإجابة تعتمد على مدى التزام جميع الأطراف ، داخليًا وخارجيًا ، بعملية انتقال سياسي حقيقي تُعيد لسوريا مكانتها ، وتحفظ حقوق شعبها بعد سنوات طويلة من المعاناة.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..