ما بين عَزة و هواها
عبدالله محمد عبدالله
عندما قدّم طلاب قسم الموسيقى( أغنية عزّة في هواك ) للمرة الأولى بتوزيع الأستاذ الكوري أوشان في السبعينات، أثارت جدلاً واسعاً، و انقسم النقاد و المستمعون بين مؤيد للتجربة و معترض عليها . و لما توجّه أحد مقدمي البرامج بسؤال للفنان الكيير خلف الله حمد مستطلعاً رأيه في ما قام به طلاب المعهد و أساتذتهم، أجاب باختصار قائلاً ( بهدلوها تب)! و الآن .. و بعد عشرات السنين من تلك التجربة تعرضت عزة إلى (بهدلة ) أخرى، بلسانٍ اثيوبي و آلةٍ شرقية و إخراج سوداني. لست أدري لماذا يحدث ذلك الآن، ربما لدعم ادعاء اثيوبي قديم، لا إثبات له بأن لحن عزة كان في الأصل اثيوبيا.. ثم … ما الداعي لسيطرة آلة القانون التي لا تنتمي إلى أي من اثيوبيا او السودان؟ و التي فقدت مكانها في فرقة الإذاعة السودانية بعد لبثٍ قصير. اما محاولة اعادتها عبر بيت العود السوداني فقد أعثرتها الحرب اللعينة قبل تجذيرها المأمول. و (عزة)، بلا شك من دُرر الغناء السوداني الشائع، فقد ظلت تحتل موقعاً خاصاً، لعراقتها و ارتباطها بالاحساس الوطني لدى قطاع كبير من السودانيين، و للحنها البديع و رمزيتها العالية. و هذا مما يؤهلها لقدرٍ من الحصانة التي تقتضي في كل تناول لها شيئاً من الإعتراف بوضعيتها التاريخية و قيمتها الفنية شعراً و لحناً، وقدراً من الإجلال لمؤلفها الشاعر الثائر، و بلغة اليوم، المؤسِّس خليل فرح. و في ظني ان تقديم (عزة) بلغات سودانية أخرى ربما كان سينال حظا من النجاح أكثر وفرةً في وقت تهدد فيه الحرب البائسة وحدتنا الوطنية و نسيجنا الاجتماعي، و أهل البيت كما جاء في المثل أولى بزيتهم. محاولات التصرف في (عزة) من الكثرة بحيث يصعب حصرها هنا وقد تفاوتت حظوظها من النجاح، و يصعب أن تجد فناناً ممن عرفنا لم ينل من مجد عزة نصيباً، إذ تعددت محاولات تجديدها و تقريبها من الذوق العام، الذي هو في حالٍ من التغيُّر الدائم. فاكتسبت صفة اللحن الأكثر ترديداً، بدءاً بمحاولات الصبية و هم يتوسلون بميلوديتها لتعلُّم العزف على الصفارة، و بدايات مَن تعلَّم مِن الشباب بنغماتها عزف العود و جملةٍ من الآلات الموسيقية الأخرى، و مروراً بتقديمها على المسرح و الاذاعة و التلفزيون في شتى المناسبات الوطنية. كما قدمها فنانون أجانب ممن حلّوا بديارنا، خلال سعيهم للتقرُّب الى المستمع السوداني و عرض قدراتهم الأدائية، مثلما فعلوا باغنيات ذائعة أخرى عديدة. و تلك محاولات على طرافتها لا يتعدى معظمها محيط العلاقات العامة كثيراً، أو لفت النظر الى حسن الجوار و التقارب الفني كما هو في حال تلاهون قاسّاسا و المايو الاثيوبيين. أما في مجال تناول (عزة) بالتوزيع الموسيقي و الأداء الكورالي فلابد من الإشارة إلى محاولة معهد الموسيقى و المسرح الباكرة التي أشرنا اليها قبلاً، و المحاولة الثانية في مطلع الثمانينات، تلك التي تولّى مصطفي سيداحمد فيها دور السولويست، و التي عمد فيها الأستاذ الكوري مستر كيم إلى تخفيف جرعة التحديث و الاستعانة بآراء من تأهّل من الأساتذة السودانيين، فنالت ما افتقدته سابقتها من الإشادة و الإعجاب، و ظلت في قوائم الاستماع طويلا. ثم هناك النسخة السينمائية التي قدمها كورال كلية الموسيقى و الدراما في الأعوام الاخيرة الماضية، و التي ما زالت في صدارة ما أحب الجمهور من أعمال الكورال، لما بُذل فيها من جهد في التوزيع الموسيقي و التنفيذ و الإخراج السينمائي. مما يثير التعجُّب ان مخرج هذه النسخة الثالثة البديعة هو ذات المخرج الذي تولّى اخراج الأغنية في نسختها الإثيومصرية الأخيرة المثيرة للاستفسار، و ربما الجدل، لضعف الصوت السوداني فيها و سيطرة آلة القاتون التي انتقصت من جديتها فبدت اكثر قرباً إلى الإستعراض الترويجي، مع استبعادنا ان يكون ذلك من نوايا منتجيها. ختاما، لن نبتعد كثيراً عن قولة ماو تسي تونج حمّالة الأوجُه (دع مائة زهرة تتفتح) و ننتظر بكثير من الرجاء حصاد هذه التجربة على جانبي الحدود، مع إشادةٍ مستحقّةٍ بصولو الساكسفون التي افتتحت الأغنية و بصوت تلك المغنية القديرة التي لا نعلم إن كانت تردّد ما قاله خليل فرح في عَزته الأم، أو أن بهدلةً ألمّت بمنظومته الخالدة خلال صياغتها بالأمهرية شعراٌ.
تبهدلت عزة الوطن كما تبهدلت الاغنية والاغاني .. وكل ٍ تبهدل !!!