بوكو حرام تفتتح استلهام التجربة السورية في تشاد

سقوط النظام السوري وتحول هيئة تحرير الشام من منظمة جهادية إلى كيان سياسي اكتسب شرعية إقليمية ودولية، فتحا شهية الجماعات الجهادية في أفريقيا لاستنساخ السيناريو السوري ما قد يوصلها إلى الحكم.
القاهرة – كشفت تطورات الأحداث المتسارعة في المنطقة عن تصميم الحركات الجهادية المسلحة على القيام بأدوار رئيسية خلال المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وفتحت سيطرة هيئة تحرير الشام على الحكم في سوريا شهية بوكو حرام المتمددة في وسط أفريقيا للانقضاض على السلطة في تشاد عبر هجوم مباغت على قصر الحكم أخيرا.
ولا يعني إفشال القوات الحكومية في نجامينا للهجوم الذي شنته جماعة بوكو حرام بهدف السيطرة على القصر الرئاسي في تشاد أن الجماعة لن تعاود المحاولة مجددًا.
وبات من الدروس التي يتداولها الجهاديون المستوحاة من السيناريو السوري أهمية الصبر الإستراتيجي ومواصلة الضرب والاستنزاف لفترات طويلة أو مداومة المكوث والإعداد والتدريب، حتى تنضج ظروف مواتية تضعف مقاومة نظام جرى استنزافه وطرأ عليه الضعف والهشاشة ولم تعد لديه المقدرة على الصمود.
وضمن سلسلة الفصائل الجهادية المسلحة لم يعد سوى بوكو حرام الوحيدة التي لم تهيمن على السلطة في ساحة من الساحات بشكل منفرد رغم شهرتها وسبقها، حيث جرى التمكين لدواعش أفريقيا في سوريا وطالبان في أفغانستان، وترى الجماعة التي تنشط في وسط وغرب أفريقيا أن أوان صعودها وسيطرتها على الحكم قد حان وما عليها إلا تكرار المحاولات وصولًا إلى توقيت تنضج فيه العوامل المساعدة كي تجني ثمرة تمردها الطويل.
وتوجه مقاتلو بوكو حرام هذه المرة مباشرة للهجوم على قصر الحكم في العاصمة نجامينا، بخلاف هجماته السابقة على قوات الجيش والتمركزات الأمنية، رهانًا على أن مختلف الظروف المحيطة تخدم تسلمهم السلطة بعد إزاحة نظام الرئيس محمد إدريس ديبي.
♦ اليأس من القضاء على الكيانات الإرهابية قد يفضي إلى التحول باتجاه التفاهم وعقد صفقات سياسية معها
وتستغل بوكو حرام الشعور الشعبي المتزايد بالإحباط واليأس جراء أوضاع اقتصادية متردية، بالنظر إلى انتشار الفقر مع خيبة أمل شعبية في فرنسا التي أفاد تدخلها شركاتها العملاقة والنخبة التشادية الحاكمة وليس الشعب.
وينتظر التشاديون الحل والخلاص من أيّ جهة كانت بعد فشل رهانهم على مكونات الحكم والمعارضة، وهو ما يكرر ثيمة المفاضلة بين السيء والأسوأ وفرضية الرضا بأيّ بديل حتى لو كان البديل الجهاديين والتكفيريين، ما دام ذلك سيكرس الخلاص من حكم فاشل شمولي.
وتستفيد جماعة بوكو حرام من الأوضاع المضطربة المحيطة بتشاد من كل اتجاه؛ حيث استمرار الحرب السودانية في الشرق وبيئة الصراع الليبية المضطربة في الشمال فضلًا عن النيجر ونيجيريا على الحدود الغربية وانهيار الحدود الجنوبية مع أفريقيا الوسطى.
ومن المرجح ألا يستمر صمود التماسك التشادي طويلًا أمام التغيير الذي تصر على الإمساك بزمامه جماعة بوكو حرام خاصة مع عدم إبداء النظام مرونة لحل الأزمة السياسية المعقدة في البلاد لتفادي انفجار الأوضاع وعودة الانقلابات العسكرية إلى منطقة الساحل الأفريقي.
وتتضح المقاربة مع الحالة السورية داخل تشاد خاصة أن الجيش التشادي يعاني من إرهاق المعارك وفقدان الحلفاء في مكافحة الإرهاب، والأهم الجزء المتعلق بطبيعة الخصم وتطوره؛ حيث راكمت بوكو حرام خبرات قتالية وأسلحة وتدريبا متطورا داخل ليبيا المجاورة، علاوة على سيطرة العامة على عدد كبير من المركبات والذخيرة الخاصة بالجيش.
ولم تعد هجمات بوكو حرام ضد تشاد مجرد عمليات ثأرية في سياق الردود على الحملات الكبيرة التي نفذها الجيش ضد الجماعة ومصالحها، وما يجري هو بقصد الإزاحة الكاملة للنظام والحلول محله.
وترى جماعة بوكو حرام أنها الآن على بعد خطوات من مرحلة التمكين وأن ما يفصلها فقط هو إسقاط الحكم الشمولي العائلي القبلي، مستندة إلى حاضنة شعبية وعقد تفاهمات مع القبائل المنتشرة ببحيرة تشاد خاصة في المناطق المحرومة من الخدمات والتي تعاني من التهميش من قبل الحكومة، وهو ما تستغله الجماعة للدفع بوتيرة تجنيد العناصر.
وزادت الأطراف الخارجية الداعمة من قدرات بوكو حرام في حوض بحيرة تشاد فعززت من حضورها وضاعفت نشاطها وأعادت تموضعها، ليست كفاعل منفرد ومستقل إنما ككيان عسكري مدفوع وممول يجري استخدامه وتوجيهه لتغيير المعادلات والتوازنات في المشهد السياسي بالدول الوازنة وبالإقليم.
وكما أن الفاعل الإقليمي حاضر من السودان وليبيا لخدمة أجندته ومصالحه هناك تصارع دولي واستياء فرنسي وأميركي من فرضية نشوء علاقات قوية بين روسيا وتشاد، ما يعكس تطلعات القوى الخارجية إلى إعادة تشكيل المنطقة وفقًا لمصالحها. ولن تكون محاولات إنهاء المظهر الديمقراطي في تشاد لصالح قوة عسكرية صاعدة عن طريق انقلاب عسكري كما جرى في مالي وبوركينا فاسو؛ حيث أن هناك قوى خارجية تدفع للتغيير لحساب قوى راديكالية تكفيرية.
ولن تكون بوكو حرام رغم دمويتها وشراستها وماضيها الحافل بالعنف استثناءً في مسار إعادة تدوير الجهاديين وتسكينهم ببلادهم ومناطقهم عبر منحهم السلطة، ما دامت هناك استعدادات لتجاوز مختلف القوى للماضي الإرهابي الدموي للعديد من الكيانات الإرهابية.
♦ بوكو حرام ترى أنها الآن على بعد خطوات من مرحلة التمكين وأن ما يفصلها فقط هو إسقاط الحكم الشمولي العائلي
ولم يستمر تمركز بوكو حرام وتمددها في شمال شرق نيجيريا وجنوب النيجر وبدرجة أقل في شمال الكاميرون وبوتيرة متصاعدة في منطقة بحيرة تشاد، بجهود ذاتية منفردة، إنما عبر تشابك مصالح بين الجماعة وبين قوى إقليمية وأخرى دولية توظف مختلف الأدوات بهدف إزاحة أو على الأقل تحجيم نفوذ قوى أخرى.
وأفضى اليأس من القضاء على الكيانات الإرهابية والفشل سواء عبر التعاون مع تشكيلات إقليمية أو الدخول في تحالفات دولية لمكافحتها، إلى التحول باتجاه التفاهم وعقد صفقات معها، مؤداها التسامح وغض الطرف عن وصولها إلى السلطة مقابل تقديمها تنازلات وحفاظها على مصالح اللاعبين الدوليين.
ومن المرجح أن تكرر جماعة بوكو حرام محاولاتها للسطو على السلطة بقوة السلاح؛ حيث التقطت مختلف التنظيمات التكفيرية إشارة التعاطي الدولي مع هيئة تحرير الشام وفرضية التعاون مع زعيمها أحمد الشرع والتعامل معه كرجل دولة، ما يعني استلهام الأفرع القوية بأفريقيا النموذج السوري والسعي لاستنساخ التجربة للوصول إلى النصر الكامل والتحول من نطاق التمرد والتصنيف على قوائم الإرهاب، إلى السلطة والتمكين وتقمص شخصيات رجال الدولة.
وبعد ما تحقق لهذا التوجه الجهادي الذي يركز جهوده على الحكم وتحسين العلاقات مع المكونات الداخلية وكسب ثقة المحيط الإقليمي وكسب الاعتراف وصبغ الشرعية من الغرب والولايات المتحدة في أفغانستان أولًا من خلال جهود حركة طالبان، وتاليًا في سوريا عبر التفوق والانتصار الذي حققته هيئة تحرير الشام، فمن المرجح أن يزيد نفوذ وحضور “الإسلام السياسي المسلح” في أفريقيا والعالم بأسره.
وقد تجري محاكاة تحول هيئة تحرير الشام من منظمة جهادية بحتة إلى كيان سياسي مندمج في مناطق أخرى في العالم، خاصة في تشاد ودول الساحل الأفريقي وربما الصومال والسودان وغيرهما.
وإذا أبدت أفرع التنظيمات التكفيرية في تلك المناطق استعدادها للانخراط في الدبلوماسية وتغيير خطابها العنيف والعدائي واستبداله بآخر مرن في محاكاة لتحولات أبومحمد الجولاني (أحمد الشرع)، سيشكل ذلك فرصة كبيرة للغرب والولايات المتحدة ولاعبين إقليميين، وفي المقابل سيشكل تحديًا كبيرًا للحكومات والأنظمة القائمة المستهدفة بالعزل أو الردع أو مجرد إضعافها.
العرب