مطلوبات تحقيق النهضة ٣/٢

د. محمد حمد مفرح
حسبما أشرت في الحلقة الأولى من هذا المقال فان أوروبا استطاعت مواجهة واقعها الذي كان موسوما بالتخلف محدثة اختراقات كبيرة Big breakthroughs حققت من خلالها نهضة غير مسبوقة.
ومما يجدر ذكره أن هذه الاختراقات لم تتحقق هكذا دون نضال بل جاءت نتيجة جهود ضخمة وصراعات وحروب على عدة جبهات.
وقد خلقت هذه الصراعات والحروب واقعا مأساويا كرس التخلف العام في عدة دول اوروبية وكان خصما على مسيرة التطور فيها. وكما أسلفت فان هنالك دول أخرى استطاعت هزيمة واقعها وحققت التطور والرفاه لشعوبها ، منها دول يشبه واقعها واقع بلادنا مثل ماليزيا والهند ورواندا. ويؤكد هذا ، دون ريب ، أن عملية بناء الأوطان والامم Building of states and nations تحتاج لجهود تراكمية وجد ومثابرة حتى تؤتي أكلها وتقود لنهضة حقيقية.
وبجانب هذه الجهود فان ثمة حاجة ماسة لإدارة الموارد Management of resources على النحو الذي يحقق النهضة المنشودة. وليس أدل على أهمية ادارة الموارد من أن التاريخ المعاصر يحدثنا عن دول استطاعت عبر الادارة المثلى أن تعمل على تنميية مواردها القليلة او المتواضعة ، بالقدر الذي نقلها الى افاق النهضة الحقة. كما أن هنالك دول توافرت لها موارد كبيرة لكنها لم تحقق نهضة بسبب فشلها في إدارة مواردها. ويعد هذا الفشل ، بطبيعة الحال ، نتاج سوء الادارة Mismanagement او الفساد.
ومما لا جدال فيه ان الفساد ، اداريا كان ام سياسبا او خلافهما ، والمستشري في العديد من الدول يمثل أساس معوقات تحقيق النهضة. وقد أدى هذا الواقع الى خلق حالة من القعود عملت على تكريس التخلف والفقر في العديد من دول العالم وبالذات في بلدان العالم الثالث. ولذا فقد بقيت بسببه كثير من الدول مقعدة حضاريا واسيرة لديمومة ثالوث الفقر والجهل والمرض.
وعودا الى واقع أوروبا سالف الذكر فان من الأهمية بمكان الإشارة الى ان الحضارة المادية العبقرية التي حققتها أوروبا جاءت عبر مراحل عدة قادت الى نشوء الدولة القومية National state والتي تعد ظاهرة اوروبية ولدت نتيجة الصراع بين السلطة الزمنية التي مثلها (الساسة) والسلطة الروحية التي مثلها الملوك الذين ادعوا التفويض الالهي ، فضلا عن الكنيسة. وقد تمظهر هذا الأمر من خلال عقد معاهدة وستفاليا التي تمت في العام ١٦٤٨م واصبحت تشكل اللبنة الأولى وحجر الزاوية في صرح التنظيم الدولي المعاصر مشكلة بداية الدولة القومية. ثم كان للثورة الصناعية Industrual Revolution التي شكلت الثورات العلمية والتقنية وثورة الاتصال القدح المعلى في تنامي التطور الحضاري باوروبا حتى تحول العالم ، بفضل هذه الثورة الصناعية ، الى قرية كونية.
ومن الأهمية بمكان الإشارة الى ان الثورة الفرنسية لعبت دورا مقدرا في وضع حد لهيمنة الكنيسة على (السياسة) وأسست للعلمانية Secularism ولنظام الحكم الديموقراطي بعيدا عن تلك الهمينة. ولا شك في أن الثورة الفرنسية مثلت نقطة تحول Turning point في تجذير شعارات الحرية والسلام والعدالة ، فاتحة الباب على مصراعيه لولوج عالم التطور والنهضة بعيدا عن الهيمنة على حساب المصلحة العامة.
وبذا فقد أسست أوروبا لمرحلة حضارية مفصلية وجد متقدمة غيرت وجه دولها ثم اصبحت لها تأثيراتها الواسعة والعميقة في الكثير من دول العالم. وتتسم هذه الحضارة بالديناميكية Dynamism واستمرارية التطور بوتيرة متصاعدة فضلا عن التنافس الدولي.