مقالات وآراء

ادوارد سعيد في بيت الخليفة

 

د.عبد الله علي إبراهيم

رحل عنا فبل ايام البروفسير ادوارد سعيد (1935)، الأمريكي الفلسطيني واستاذ اللغة الانجليزية بجامعة كولمبيا بنيويورك. وسعيد شيخ مدرسة أكاديمية اشتهرت باسم “دراسات ما بعد الاستعمار”. وهي مدرسة لا تصوب نقدها لتركة ومغزى الاستعمار فحسب، بل هي خصم ألد لصفوة الوطنيين التي أخرجت المستعمرين أيضاً. والقارئ المتأمل لعبدالله الطيب في (من حقيبة الذكريات) سيجد أنه قريب جداً من هذه المدرسة على طريقته الخاصة بالطبع. فقد قال إننا قاومنا المستعمر، ولكننا تعادينا منه. فنحن هو الخالق الناطق. أخرجناه هتافاً غير أنه سكن الطبقة التي تحت الهتاف وكمن. فمن رأي سعيد أننا لم نقف بعد على جلية الاستعمار على طول ابتلائنا به و”تحررنا” منه. وتريد مدرسة سعيد أن تفهم الاستعمار كثقافة تنسرب إلى الوجدان وتبقي. وكان جيل الوطنيين قد فهمه كحكومة أجنبية متى رحلت إلى بلدها لملمت عددها وساقت معاها ولدها (اغنية للفنان العطبراوي). وقال أحدهم إن الاستعمار هو ثقافة في نهاية التحليل. وهي ثقافة مسنودة بالشوكة وانبنت على مفاهيم للعرق والتقدم والحداثة والمرأة والإسلام وغيره.
خصص سعيد كتابه “الثقافة والإمبريالية” (1993) ليتلافى نقصاً معيباً في معرفتنا بالاستعمار. فهو يري أن ضوضاء الجيل الوطني لم تنفذ لمعرفة كيف تقتحم الامبريالية ثقافة الذين تستعمرهم، وكيف تطبعهم بقيمها في حين يظنون أنهم قد صرعوا الاستعمار ونجوا من شره. فقد نقرأ رواية “مانسفيلد بارك” للكاتبة الانجليزية جين اوستن كواحدة من عيون الأدب العالمي الذي لا شاغل له بالسياسة. ومن رأي سعيد أن هذه غفلة. وكشف بصفاء كيف أن الثقافة والسياسية تناصرتا في المشروع الاستعماري. فلم يقتصر المشروع على السيطرة عن طريق العسكر والسلاح، بل عن طريق “استعمار” خيالنا والقبض على زمام الصور والأشكال في حياتنا. وبفضل هذه القبضة المزدوجة خلص المستعمرون لا إلى حقهم في استعمارنا وترقيتنا فحسب، بل إلى أن ذلك واجبهم وقدرهم أيضاً.
لم يكن مثل هذا النقد غائباً في بواكير نشأة الحركة اليسارية في بلدنا. وهي الحركة التي زاحمت جيل الوطنيين إلى عقل وخيال المواطنين. ولتوضيح فكرة سعيد اضرب مثلاً من أدب اليسار الباكر في نقد الاستعمار كنظام ثقافي. وأردنا بضرب هذا المثل التقريب لا المماثلة. فقد زار أحمد علي بقادي متحف بيت الخليفة وكتب عنه في جريدة الميدان (3 يونيو 1957). وقال إنه انقبض لأن المتحف هو رواية الانجليز لفتحهم للسودان. فالصور كلها عن هجوم كتشنر واندحار الخليفة. وتتحدث البطاقات عن “فلول الدراويش” و”هجوم فرقة الكامرون هايلاندرز في موقعة عطبرة”. أما القطع الأثرية فهي غنائم أخذها جيش كتشنر من الدراويش. وقصاصات الصور المعلقة تنقل أيضاً خبر نصر الانجليز على الخليفة أو الاستعدادات التي جرت لاستقبال كتشنر فاتح الخرطوم. وانتهي بقادي إلى القول أن “هذا المتحف مكانه لندن. هذا متحف لهزائمنا”.
لا اعرف إن كان ما يزال هذا التلقين الاستعماري قائماً في بيت “التبشيع” بالخليفة. ولكنه معرض انطبع به ناشئة السودان طويلاً على هوان شأنهم. وقد أطلعني أحدهم على مشروع فني يسترد بالكومبيتر وجه الخليفة قائماً من رقدته العسيرة المفروضة المشهورة. كما قرأت لأحدهم رسالة قديمة انتقد فيها اللوحات التي “خلد” بها المستعمرون مواجهاتهم مع المهدية مثل صورة طعنة غردون وهو يحتل أعلى الصورة ويبدو الأنصار في السفح كقطيع من الجرذان الدموية.
لقد جعل سعيد من هذه الخاطرات الباسلة علماً رصيناً يسترد به المستضعفون كبرياءهم وخيالهم المستباح.

‫7 تعليقات

  1. شكرا لك ب.عبدالله، مزيدا من قدح الذهن في المعرفة المغايرة..والتفكير المختلف أو قل الابداعي.
    فهلا كتبت عن تجربتك في جامعة كولومبيا في اميركا ،حتي يستفيد منها ناسنا في السودان! خاصة الاجيال القادمة.
    إذ ان امريكا بلدا مغايرا …فهو يستقبل كل الناس علي اختلاف تفكيرهم ،حتي لو كان مخالفا للتوجهات الأمريكية…مثل ادوارد سعيد..و بروف عبدالله..

  2. المصيبة المهدية ماذا قدمت للسودان غير المجاعة والفقر والموت المجاني وعودة العبودية ؟
    حملة كتشنير هي إنقاذ لشعوب السودان من أكبر نظام متخلف ومجرم قاتل وهاتك للعروض وناشر للجهل منع حتى تعلم اللغة العربية ودراسة الفقه.

    تفووووووو على ود فحل وخليفته.

    بقول للمرة المليون لو كنا ناقشنا المصيبة المهدية لما وقعنا في ذات الفخ بعد مائة سنة من حدوثها.

  3. أنت كمثقفاتي يجتر كتاباته القديمة بسبب الإفلاس نسيت تكتب إنه دا إجترار لمقالة قديمة. ولا تكون خرفت وقايل إدوارد سعيد مات أمبارح!

  4. الزعم بالواجب الأخلاقي تجاه الآخرين لا يقف على اوربا المستعمرة فقط، بل هو حجة كل مقاتل للناس في ديارهم، فالمسلمون زعموا ان امرهم لإخراج العباد من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد . ثم فرضوا الجزية والاتفاقيات المجحفة على المهزومين، ومن ذلك اتفاقية البقي التي عمادها اقتصاد المسترقين ومنت ات البلاد.

  5. طيب يا عبد الله علي ابراهيم ما رأيك في علم الحضارة المصرية والذي هو علم قام على أكتاف الحضارة الغربية بشكل كامل. ÷ل نسمي هذا أيضا تركة استعمارية.

    1. طبعاً يا صرصور التركية السابقة أفضل بالوف المرات من حكم المصيبة المهدية.
      الكلب ود فحل وتابعه التعيسي كان بلاءً يتساوى مع الكيزان والجنجا في أفعلهم وتصوراتهم عن الدولة والمجتمع.
      لو كنا ناقشنا المصيبة المهدية لم تكررت علينا المصائب مرة أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..