مقالات وآراء

تاريخ من البشاعة المنكورة

 

فيصل محمد صالح

اختلطت فرحة كثير من السودانيين بسيطرة الجيش السوداني على مدينة «مدني»، والبدء في عودة الحياة إليها، بحزن كبير وخوف مما ينتظرهم بعد الأحداث الدموية والتصفيات البشعة التي حدثت على نطاق واسع لمدنيين يعيشون في المدينة وما جاورها، بتهمة تعاونهم مع «قوات الدعم السريع» فترة وجودها في المدينة التي استمرت حوالي العام. واكتفت قيادة الجيش والحكومة بالقول إنها حوادث فردية من متفلتين، وأصدرت بيان إدانة لتلك الحوادث.

لم تفرق الممارسات البشعة والتصفيات بين نساء ورجال وأطفال، وضمت مجموعة ما يعرف بسكان «الكنابي» الذين يعيشون على هامش المدن والقرى الكبيرة، ومواطني جنوب السودان الذين ما زالوا يعيشون هناك، بجانب سودانيين من الوسط والشمال ممن تم تصنيفهم لجان مقاومة وناشطين آخرين لهم موقف ضد الحرب.

الغريب أن الصور الدامية لتلك الأحداث قام بتسجيلها ونقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي جنود ومقاتلون ينتمون للميليشيات المتحالفة مع الجيش، كرسالة تخويف للآخرين. وحملت الفيديوهات عمليات قتل جماعية وتصفيات لمدنيين بعد تحقيق قصير، وإلقاء بعضهم في البحر، وذبح بالسكين، وحرق قرى ومنازل «الكنابي» – ويرجع المصطلح للكلمة الإنجليزية «كامب» بمعنى معسكر، وتم تحريفها ثم تصريفها وجمعها باللهجة العامية. وسكان «الكنابي» هم مجموعات فقيرة ومهمشة، معظمها من دارفور، لها تاريخ طويل من الإقامة في منطقة الجزيرة، فيه قصص تسامح واندماج، مثلما فيه احتكاكات سابقة مع بعض سكان المنطقة المزارعين.

من المخاوف الحقيقية التي قد يحملها سكان مناطق أخرى أنه ليس هناك تعريف دقيق لكلمة «متعاون»، فالمصطلح لا يشير لمقاتلين حملوا السلاح، لكنه يشير لمدنيين «تعاونوا» مع «قوات الدعم السريع». وقد شملت هذه التهمة بائعات الأطعمة والشاي، ولجان الطوارئ التي يعمل فيها شباب يحاولون توفير الخدمات الضرورية لأهلهم، وشملت كوادر طبية عملت في مستشفيات ومراكز صحية كان يتردد عليها جنود «الدعم السريع»، كما شملت، في فيديو شهير من مدينة الدندر، مأذونا تم تقديمه في فيديو وهو تحت الاعتقال بتهمة أنه كان مسؤولا عن ترسيم عقود الزواج لجنود من «الدعم السريع» تزوجوا فتيات بالمنطقة.

لم تكن هذه الحوادث فريدة من نوعها، فقد حدثت حالات مماثلة في المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها في أم درمان ومنطقة الحلفايا في الخرطوم بحري، ثم في مدينتي سنجة والدندر، ولكن كان حجم الأحداث في مدني كبيرا، ووجدت توثيقا لم تجده الحوادث الأخرى.

كان حجم البشاعة صادما جدا، وربما استغرب كثير ممن لديهم انطباع جيد عن الشخصية السودانية لما حدث، وعدوه صورة غير مألوفة أو معروفة، لكنها في الحقيقة هي الصورة الحقيقية لما تحدثه حالة الحرب في نفوس الناس، وقدرة ثقافة الحرب، عندما تسيطر على النفس البشرية، على أن تخرج أسوأ ما فيها.

من ناحية ثانية فقد حملت الحروب السابقة في السودان، سواء كانت حرب الجنوب أو حرب دارفور، أو منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بشاعات مماثلة قتل فيها مدنيون، وأحرقت فيها القرى بنفس تهم التعاون وإيواء المتمردين، لكنها لم تجد التسجيل والتوثيق لبعدها عن الوسط الحضري من ناحية، ولعدم وجود وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك الوقت. ورغم أن هناك إشارات إلى تلك الأحداث هنا وهناك، فإنها لم تجد عناية كبيرة من أطراف النزاع بعد اتفاقيات السلام، ومحاولة إيجاد معالجات فردية وجماعية لها عبر تجارب بلدان أخرى مثل لجان الحقيقة والمصالحة وآليات العدالة الانتقالية. فقد حملت اتفاقيات السلام الشامل (2005) مواد عن المصالحة ومعالجة الجراح والعدالة الانتقالية، ونفس الأمر حدث مع اتفاقيات السلام في دارفور في أبوجا (2007) ثم في الدوحة، ثم الوثيقة الدستورية (2019).

تبدو البشاعة والجريمة اللتان تحدثان أثناء الحرب بلا أب، ينكر الجميع نسبتهما إليهم، لكنهما في الحقيقة مسؤولية الجميع، مع تفاوت حجم المسؤولية. الجنود والمقاتلون الذين ارتكبوا هذه المجازر لديهم مسؤولية مباشرة، كذلك القيادات الكبيرة في الجيش و«الدعم السريع» والحركات المسلحة مسؤولون ويستحقون المحاكمة، والكيانات السياسية التي تتنازل في كل مرة عن حقوق الضحايا ويمر المجرمون بلا عقاب لديها أيضا مسؤولية تاريخية.

لم يكن هناك اهتمام حقيقي بمعالجة هذه الأحداث في الماضي، بما يضمن محاسبة الجناة وترسيخ سياسة عدم الإفلات من العقاب ومعالجة وإبراء الجراح، لذلك سهل تكرارها في مرات كثيرة بروح مطمئنة بأن النجاة من المحاسبة مضمونة.

‫8 تعليقات

  1. استاذنا …..لا شك ان اي اعمال عنف ضد اي بريء اعزل او حتى محارب استسلم (اسير) هي اعمال تنكرها الفطر السليمة ولا تليق بعاقل حتى اتهام الناس الابرياء لتصفية الخصومة السياسية وتشويه سمعتهم على المنابر الرسمية بدون محاكمات عادلة سلوك غير مقبول ( لجنة ازالة التمكين ما صنعت ؟ ) المعنى ان نشوة المنتصر لها ردة فعل لا تخلو من شيء يجافي المعقول وهذا في كل زمان وكل مكان ولكن المصيبة كل المصيبة ان يتاجر البعض بهذا السوك وينسب لجماعة بعينها لمكاسب لا تخدم الحقيقة محاولة تفخيم الاحداث البسيطة هي ديدن كثير من ساستنا في السودان
    ولكن ما فعلة الدعم الصريع في الابرياء العزل في مختلف مناطق السودان غض النظر عن انتمائتهم الجغرافية او القبلية امر غير مسبوق في التاريخ الحديث وهذا الامر على فظاعته لم يجد من الاعلام العالمي والمهتمين بحقوق الانسان العناية الكافية وانتم اخي استاذ فيصل من يتحمل عبء هذا الضعف في عكس صورة هذه الانتهاكات البشعة للعالم بصفتكم اعلاميين لكم مداخل لمنابر اعلام لها انتشار عالمي ( جريدة الشرق الاوسط انت كاتب فيها) ولكن بكل اسف موقفكم السياسي كان له تأثير واضح في احجامكم عن عكس فظائع الدعم الصريع التي تحملها المواطن السوداني البسيط في اصقاع السودان لحوالي عامين كاملين …… الحياد للاعلامي امر مطلوب ولكنه صعب على اهل الولاء لمذهب سياسي ( القومية العربية )…….

  2. لماذا لم تكتب عن فظائع الدعم السريع فى الجنينة وفى الثورة وفى كل منطقة دخل اليها يا منافق يا اعمى الانحياز بعد ده كله عايزين تحكمونا ؟؟!! مستحيل بل مستحيل المستحيلات

  3. الإساءة وفاحش القول دوما من صفات الكيزان و بهائمهم و عواليقهم. المحترم أ. فيصل محمد صالح أكبر من كل مخانيثك الكيزان و من شايعهم.

    1. الادب وعفة اللسان واحترام الانسان لنفسه قسمه من رب الارزاق الكريم اما من اعتاد على السفه والجهل فهو انسان ترك( بضم التاء) لنفسه الامارة بالسوء ولهواه . وشتان بين محترم لنفسه صائن لها عن وضيع القول ومن هو متهوك خائض في كل شيء يهرف بما لا يعرف يتهم بالباطل لا يفرق بين حق وباطل وخير وشر ……… انما الامم الاخلاق ……اذا اصيب القوم في اخلاقهم فاقم عيهم مأتم وعويلا ………..

  4. ما حدث في ودمدني من قبل بعض ( أفراد ) الجيش عمل مرفوض تماماً و هو عمل فردي و ليس ( ممنهج و مقصود ) اي إنها ليست ( تعليمات ) من قيادات الجيش التي تحارب المرتزقة من أجل الشعب السوداني و افندية قحت المركزية و ابواقهم المأجورين يريدون أن المتاجرة السياسية للحادثة في حين إنهم صمتوا صمت القبور في مجازر الجنينة و ود النورا … سيبكم من النفاق و دموع التماسيح
    فالمبادي لا تتجزأ…

  5. الكيزان اوصلوا السودانيين للتفكير الجاد جدا في خلق منظمات مسلحة تحمي الشعب السوداني من ارهابهم
    لأول مرة وانا عمري فوق الاربعين اسمع عبارة العمل (تحت الارض) المقصود به العمل السري ضد الكيزان باستهدافهم طالما اصبحوا يستهدفوا الشعب.
    في الكثير من الاقاليم السودانية إذا تأسست منظمات مسلحة ضد الكيزان بحصل حرب من نوع آخر ..اللهم استر

  6. سيبك من نفاق النكب السياسية فإذا كنت نددت بانتهاكات مرتزقة عربان الشتات الإفريقي و المجازر التي ارتكبوها لقلنا عنك رجل صادق و قلبك علي الشعب السوداني الأعزل… إنه زمن الإنحطاط الأخلاقي…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..