مطلوبات تحقيق النهضة ٣/٣

د. محمد حمد مفرح
لا شك في أن اسقاط المعطيات التاريخية لدول أوروبا ، تلك المعطيات التي تم استعراضها في الحلقة الثانية من المقال والتي قادت الى تسيد أوروبا للمشهد الحضاري الدولي ، لا شك في أن اسقاطها على الواقع السوداني يؤكد حقيقة بدهية Intuitive fact تتمثل في أن التجارب التي خاضتها بعض دول أوروبا كألمانيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا وغيرها وبالرغم من اختلافها من دولة الى أخرى ، الا انها ، بصورة عامة ، تختلف طبيعة وواقعا عن تلك التي خاضها السودان. ذلك أن هذه الدول لا تمثل ، من حيث طبيعة تجاربها وواقعها ، كتلة واحدة ، لكنها تشترك في المحصلة الايجابية لهذه التجارب ، برغم مرارتها. فتجارب هذه الدول تتسم بالحروب الخارجية الطويلة والصراعات الداخلية التي عجمت عود تجربتها فاستفادت منها في توالي تطورها السياسي Continuity of political progress ، برغم كلفتها العالية على أكثر من صعيد.
أما بالنسبة للسودان ، وبعيدا عن استعراض تاريخه السياسي البعيد ، فان تجربته الوطنية ما بعد الاستقلال تؤكد على أن ثمة معوقات ومتاريس عدة تقف حائلا دون تحقيقه للنهضة المرتجاة. وقد تمظهرت هذه المعوقات والمتاريس في الصراع بين دعاة الحكم الرشيد ، المستند الى الديموقراطية التي تقوم على العدل والحرية والمساواة وبين دعاة الدكتاتورية Dictatorship او الاوتوقراطية Autocracy التي تخدم مصلحة فئات وتنظيمات معينة. والغريب في الأمر أن بعص دعاة الدكتاتورية يتوسلون للحكم بالاسلام ، على المستوى التنظيري ، دون تطبيقه ، مؤكدين على أن فكرهم وبرنامجهم السياسي لا يستند الى الدين كما يدعون. ومن الشواهد على ذلك تجربة الانقاذ التي اثبتت عمليا ، من خلال فترة حكم الاتقاذ الطويل ، أنها محض دكتاتورية تتدثر بالاسلام بصورة سافرة ومكشوفة ، ليس الا. فقد ظل خطاب الانقاذ اسلاميا دون ان يترجم الى واقع ، كما طفقت قياداتها تحاول جاهدة ، رغم انف الواقع ، أن تقنع الشعب بأنها تسعى لتحكيم شرع الله.
من جانب اخر فان واقع السودان من حيث تفشي الأمية بشقيها الأبجدي والحضاري وخلافهما من عوامل داخلية مضافا إليها العوامل الخارجية يجعل من توطين الديموقراطية الحقة ببلادنا ، والتي تعتبر لازما من لوازم تحقيق النهضة في الحالة السودانية ، يجعل منه ، امرا صعبا وبعيد المنال. وبالطبع لا يمكن القفز فوق المراحل او حرقها لبلوغ النهضة الواسعة والشاملة دون القيام بقدح زناد الفكر والمثابرة من اجل بلوغ افاق ارحب.
وتعتبر الأزمة الحالية بالسودان المتمثلة في الحرب والتي تمثل مظهرا من مظاهر الصراع على السلطة بين الدكتاتورية والديموقراطية ، تعتبر أحد عوامل هدم مساعي النهضة.
يقول المبعوث الامريكي للسودان توم بيريللو ملخصا الصراع
الحالي (هنالك مجموعات تحمل السلاح لمنع قوى تريد تطبيق الحكم المدني الديمقراطي).
ومع الاخذ في الاعتبار واقع السودان الحالي يمكن التأكيد على ان مطلوبات النهضة ببلادنا تتمثل في الاتي :
١.استجابة طرفي الحرب القائمة حاليا بالبلاد لدواعي السلام عبر التعجيل بانهاء الحرب من اجل تمهيد الطريق للسلام والانخراط في عملية سياسية تفضي الى حكومة انتقالية متفق عليها.
٢.تحديد مهام ومسؤوليات الحكومة الانتقالية والتي يجب أن تتضمن خطة لاعادة بناء ما دمرته الحرب والمحافظة على الأمن والسلام وصيانتهما مع الشروع في اقالة عثرة الاقتصاد وازالة تشوهاته وبنائه مع تقديم الخدمات للمواطنين.
٣.قيام الحكومة الانتقالية باجراء العدالة الانتقالية Transional Justice من خلال الاستفادة من التجارب المماثلة التي تمت بدول أخرى.
ومما يجدر ذكره أن العدالة الانتقالية والتي مثلت قفزة منتجة Productive leap فوق واقع دول لها تجارب حروب مماثلة لبلادنا ، تشمل ، أي العدالة الانتقالية ، اعترافات المتهمين وتعويضات المتضررين والعقاب والعفو وخلافها.
٤.قيام الحكومة الانتقالية بالإعداد للانتخابات التي تقود لحكومة ديموقراطية عبر انتخابات حرة و مبرأة من الفساد.
٥.قيام الحكومة الديموقراطية المنتخبة بتهيئة البيئة الداخلية لتحقيق النهضة الشاملة وذلك من خلال القيام بالاتي:
-ترسيخ الامن والسلام عبر إيقاف أي حرب بالبلاد لم تتوقف حتى ذلك الوقت.
-وضع إستراتيجية ذكية Keen strategy للنمو الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مع العمل على ادارة موارد البلاد بصورة مثلى تنعكس ايجابا على الاقتصاد وتنقله الى افاق ارحب.
-العمل على محاربة الفساد بكل اشكاله وذلك من خلال اعمال القانون لارساء قواعد العدالة Justice والمساءلة Accountability والشفافية Transparency.
-تخصيص ميزانيات مقدرة للارتقاء بالتعليم العام والعالي مع الاهتمام بالبحث العلمي بالجامعات والمعاهد العليا والصرف عليه بسخاء.
-الاهتمام اللازم بالتربية الوطنية التي تعلي من قيمة الوطن وذلك بعيدا عن العنصرية والجهوية وخطاب الكراهية ، والتي تعصف بصرح وحدة الوطن واللحمة الوطنية.
ومن الضروري بمكان إعداد مادة تربية وطنية هادفة و منتجة لتدريسها للنشء والطلاب بالمراحل التعليمية المختلفة.
وبعد .. تمثل مطلوبات النهضة سالفة الذكر ، مجتمعة ، مفتاح انتشال السودان من وهدته الحالية وولوجه عالم التطور الحقيقي الذي اصبح عنوان العصر الحالي.