مقالات وآراء

ما بعد تحرير مدينة مدني: خطابُ حرب أبريل في ثوبه الجديد

صلاح الزين

في مقالٍ سابقٍ بعنوان: اكتمال قوس حرب أبريل: نصف مرآة الخطاب تَحِنُّ إلى نصفها الآخر (مداميك: الجمعة السابع عشر من يناير 2025) قال المقال إن “خطاب حرب أبريل 2023، الخطاب (الجانوسي) ذو الرأسين (فلولي) و(جنجويدي) في سعيِهِ لكسر عاهته يسعى لكسر مرآة التاريخ حتى تكون مرآته جَوفاً لِجِماعِ وجوهِ ضحاياه فلا يروا جمعهم ووجوههم في مرآة الحقيقة. فمرآته صفحة غدير نرجسيته التي تتكاثر كلما أُلقيَ حجرٌ فتتسع المرآة ويطمئن الخطاب إلى صورته، يُصلِح ما فسد من عطره، يُبدِّل نَعلَهُ وهِندامَهُ ثم يخطو خارجاً من مرآة طفولته نحو مرآة فُتوَّتِه ليُبدِّل ضحاياه بضحايا آخرين فاضوا عن سعة مرآة طفولة الخطاب”.

هكذا يبدو خطاب حرب أبريل، في ثوبه وحُلّته الجديدة بنعلين وعطر مغاير، وهو يخطو، كحيَّةٍ، بجِلدٍ جديد مغاير لما كانه قبل تحرير مدني. ولكل خطاب لبوسٌ وزَيٌّ جديد تقتضيه انتقالات الخطاب من حيز إلى حيز آخر ومن مستوى إلى مستوى تالٍ من غير الخروج عن بنيته الخطابيّة المسنودة بحوامل وروافع طبقية واجتماعية، فكرية وسياسية، بها يسبح الخطاب بقارب وأشرعة في مياه التاريخ واتجاه رياحه. تُبَدَّل الأشرعة واتجاهات سير القارب بتبدُّل بوصلة اتجاهات الريح وغريزة البقاء وصولاً لشاطئ بمرساة anchor ورمال يرسو عندها ذاك القارب ويستريح، لبرهة قد تطول وتقصر، ليستأنف مسيرَهُ من جديد إنْ لم يعجبه المقام والمنزلة.

ظهر الخطاب، خطاب حرب أبريل، بعد تحرير مدينة مدني، في ثوبه الجديد أكثر فتوةً وشراسةً وذكاء. ومثل كل كائن حي في انتقاله، طرداً، من الطفولة إلى الرشد لا بد من توسيع الثوب واستبدال النعال بأخرى تسع حجم الجسد والقَدم.

اتفق نصفا مرآة الخطاب، كما تقتضي ضرورة تماسك الخطاب، أن يَبقيا على حالهما كنصفَيْ مرآة، إلى حين، حين قد يطول وقد يقصر، ريثما يمعنان النظر ملياً في نزل الخطاب الجديد وهو في رشده بعد أن غادر مرابع طفولته.

ثمة استراتيجيات وتاكتيكات جديدة لازمة لسيرورة بنية الخطاب، سيرورات بمكر ودهاء جديدين قادرة على تجديد الخطاب ومستوياته. هكذا اتفق للإله “جانيوس” أن يُبقيَ جسدَهُ برأسين “فلولي” و”جنجويدي” بمرآة مشطورة إلى نصفين: لكلِ رأسٍ نصف مرآة يَرى فيها وجهه إلى حينٍ لا يعلمه إلا ذاك الإله المفتون بهيئته تلك واطمئنانه إلى تقاسمهما ذات القلب ونزوع الحلم.

هكذا انفتح خطاب الحرب في دربه الجديد ذاك، عقب تحرير مدينة مدني، على مشهدٍ مِرآويٍّ تتقاسمه وتتنازعه مرآةٌ بنصفين: نصفٌ “فلولي” يُدير مرآته صوب وجه ذاك “الجنجويدي” حتى لا يَرى نفسه في مرآته مثلما يفعل النصف الآخر “الجنجويدي” ذات ما يفعله الآخر “الفلولي”.

إنها لعبة المرايا، مرايا خطاب حرب أبريل وهو يخطو نحو عامه ورمضانه الثالث ناثراً غبارَ مَكرِه على أعين الناظرين وعقلهم الذي يَرى ويُقارِب سؤال الحرب بسؤالٍ لا تستبينه مرآة الخطاب: “من الذي أطلق الرصاصة الأولى؟” المدسوسة ومخبأة في تعدد مرايا الخطاب، المرآة المدهون سطحها بقطران الخطاب!!!

من جديد، وبشراسة وعنف مستحدَثَيْن، استأنف الرأسان حربهما داخل ذات جغرافيا حربهما وأقاليمها. كلٌ حمل نصف مرآته وخاض حربه في مرآة الآخر. وشُرِّعت الأبواب لينتقل خطاب الحرب، تالٍ لتحرير مدينة مدني، إلى مربع آخر عنوانه: الاستقطاب.
قوسٌ استقطابيٌ يدلق عسله لجذب مزيد من “البلابسة” إلى صَفِّه بينما طرفه الآخر، بذات العسل والطعم، يغري مزيداً من أرتال “الجغامة” للاصطفاف بجانبه: وما في حدَ أحسن من حد.

هكذا بدأت حرب أخرى، رقمية واسفيرية، سوحها “نقعات” افتراضية مقابل تلك التي تجري فوق أجساد البشر وحيواتهم.

فُتِحَت صوالين وبقالات اسفيرية تعرض ما عندها من منتوجات للسابلة والعابرين والمتبضعين في “مولات” الخطاب، خطاب الحرب، الرقمية: كل يشتري حسب قدرته إذ حرية البيع والشراء مكفولة للجميع في هذا البازار النيوليبرالي. للبقالات “الفلولية” الحق في أن تَعرِض ما عندها من منتجات بصرية ومادية، فيديوهات، مثلما للبقالات الأخرى، “الجنجويدية” ذات الحق في أن تعرض ما تود من فيديوهات وصور. هكذا أصبح لخطاب حرب أبريل سوقٌ لا يُحْجَر على أحد الشراء ولا حتى المرور والفرجة على ما تعرضه بقالات الخطاب من بضائع ونزهة.

سقط الرأسان “الفلولي” و”الجنجويدي” فيما نَصَباه من شراك وفخاخ: كل يعرض عورة الآخر ليستر عورته ظناً منه أنه بذلك يستقطب مزيداً من التأييد والاصطفاف لجانبه!!

هكذا تتعدد وتتكاثر ضحايا الرأسين إنْ كانوا من سكان “الكنابي” أو قرى الجزيرة: فخطاب الحرب وُلِدَ طفلاً في مرابع دار فور وسهولها وبلغ رشده واستوى عُودُهُ في ولاية الجزيرة، سُرَّة البلاد وجغرافيّة وجدانها ومستودع تعايش أعراقها.

تتعب الحرب ولا يتعب خِطابُها ، تَوْهَنُ مفاصلُ خطاب الحرب ولا تَوْهَن مفاصلها، فللخطاب من المهارة والدهاء ما يجعله بمكرٍ يغافل التاريخ و”يَدخُل بِحَمَد ويمرق بخوجلي”!!

هكذا يتمرحل الخطاب ويتبدى في استراتيجياته الجديدة، كل رأس، بنصف مِرآتِه، يعرض عورة النصف الآخر وسوءاته، يخفي شجرة نسب الخطاب، يقطع حبل المشيمة ويدلق حليب الرضاعة، ويخطو نحو عرش الإله “جانيوس” المسقوف قوامه برأسين ليطمئن على قداسته والصلاة له.

وكحبات سبحة، لن يَعدَم الخطاب أن تترى استقطابات أخرى واقعياً وافتراضياً، تلي تحريرات لمدن ومناطق مغايرة، أن تَكُرَّ سبحة الخطاب وتنقل الحرب من حرب أهلية (في) السودان، استزرعتها قوى إقليمية ودولية في تعالقاتها مع قوىً طبقية وسياسية محلية، إلى حرب أهلية سودانية تنتهي بالبلاد إلى التفكك والتقسيم على غرار ما انتهت إليه بلدان أخرى.

وسيظل ذات الإله “جانيوس” جالساً فوق عرشه برأسيه الاثنين، إذ طبيعة الخطاب من طبيعة الآلهة وطينتها وسقياها.

 

تعليق واحد

  1. مقال أو كتابة ما تتكون من خمسين سطرا وردت كلمة الخطاب فيها أكثر من أربعين مرة … هذا يعني أن الكاتب فيلسوف لديه نظرية خطابية يخطب بها الخطوب ويختطب بها كل خطب خطيب وخطبنا الله من كل خاطب وخاطبة وعين الخطوب فيها الطوب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..