تقارب المصالح الإستراتيجية بين مصر وتركيا لا يبدد مواجهة محتملة في المستقبل

يرى محللون أن المصالحة الأخيرة بين تركيا ومصر، والتي اتسمت باتفاقيات جوهرية، توضح إمكانات التعاون والتوترات الكامنة والتي قد تعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي في المنطقة، إلا أن ذلك لا يبدد مواجهة محتملة في المستقبل.
وشهدت الأشهر العشرة الماضية حدثين مهمين في التفاعل بين البلدين. الأول كان توقيع إعلان مشترك في فبراير، حيث وافقت تركيا ومصر على التعاون في مجالات مختلفة، بما في ذلك الدفاع والأمن. والثاني حدث في القاهرة في أغسطس، حيث وقع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود اتفاقية دفاع مع مصر.
حقبة ما بعد الإسلاميين
يشير التحسن في العلاقات التركية – المصرية إلى محاذاة إستراتيجية تدريجية ناتجة عن التقييمات العملية من قبل القيادات السياسية في كل من البلدين.
وقد أثرت ثلاثة عوامل رئيسية على عملية التطبيع التدريجي بين مصر وتركيا. وقد نتج عاملان عن التقييمات العملية داخل البلدين، في حين تأثر العامل الثالث بالديناميكيات الدولية.
وبعد الانتخابات المحلية لعام 2019، أصبحت السياسة الخارجية التركية أكثر براغماتية. فقد حلت القومية تدريجيا محل طابعها الإسلامي السابق. وبالإضافة إلى ذلك، قامت أنقرة بمراجعة موقفها بشأن المساواة بين الغرب وروسيا.
مما لا شك فيه أن الخط الدبلوماسي التركي كان له حتى الآن اليد العليا على التعنت المصري
وحتى عام 2021، كان تحقيق التوازن في العلاقات مع “الغرب وبقية العالم” من خلال قدر أعظم من الاستقلال الإستراتيجي له عواقب إيجابية وسلبية. فمن ناحية، زادت أنقرة من حضورها في مختلف الأزمات الإقليمية والدولية، ووضعت نفسها كوسيط محتمل. ومن ناحية أخرى، كان لبرود العلاقات مع الشركاء الغربيين التقليديين تأثير اقتصادي.
ولذلك، بدا أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد انطلق بهدف تحسين العلاقات مع الغرب بشكل كبير مع الحفاظ على الاستقلال الإستراتيجي لتركيا في سيناريوهات متعددة. وبعد تطبيع العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية (2020 – 2022)، أعادت تركيا التواصل مع جيران مثل سوريا واليونان ومصر على مدى العامين الماضيين.
وترى أنقرة أن تحسين العلاقات الإقليمية أمر بالغ الأهمية لتعزيز النمو الاقتصادي والاستقرار الداخلي وأن مصر سوق مهم للسلع التركية ودولة يمكن مناقشة قضايا مختلفة معها، بما في ذلك منطقة القرن الأفريقي.
ولذلك، قررت تركيا التضحية جزئيا بعلاقاتها مع الحركات الإسلامية المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين من أجل إحياء العلاقات الثنائية مع القاهرة.
وبعد وصول الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى السلطة في عام 2014، استضافت تركيا العديد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين أنشأوا شبكات إعلامية لانتقاد الحكومة المصرية. وأعربت القاهرة عن استيائها، مشيرة إلى علاقات تركيا بجماعة الإخوان المسلمين باعتبارها عقبة أمام تحسين العلاقات الثنائية. ولهذا السبب، كان تبريد العلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين بمثابة إشارة تركية إلى السيسي.
تركيا قررت التضحية جزئيا بعلاقاتها مع الحركات الإسلامية المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين من أجل إحياء العلاقات الثنائية مع القاهرة
ومن منظور مصر، يُنظر إلى استعادة العلاقات مع أنقرة على أنها محرك لتحسين الظروف الاقتصادية للبلاد.
وتنظر القيادة السياسية في مصر إلى تركيا كشريك تجاري إقليمي مهم، مع اهتمام خاص بقطاعي الدفاع والزراعة.
وسعت مصر بنشاط إلى توسيع تعاونها الأمني. ولتحقيق هذا الهدف، كثفت القاهرة تعاونها الدفاعي مع روسيا. ومع ذلك، يُنظر إلى المنتجات الدفاعية التركية بشكل متزايد على أنها بديل قابل للتطبيق.
ومنذ عام 2023، التقى المندوبون المصريون عدة مرات مع هالوك غورغون، رئيس وكالة صناعة الدفاع التركية، لإتمام اتفاقيات التوريد.
وإلى جانب الطائرات بدون طيار المصنوعة في تركيا، أعربت القاهرة عن اهتمامها القوي بمختلف المنتجات الدفاعية المتقدمة، بما في ذلك الذخائر الذكية الصغيرة ونظام الصواريخ المضادة للدبابات.
وينظر إلى الاتفاق مع أنقرة على أنه أقل إشكالية من الناحية السياسية من الاتفاق مع روسيا أو الصين، لأنه يثير مخاوف أقل بين حلفاء مصر الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، كانت تركيا مستثمرة في قطاعات مثل المنسوجات ومواد البناء والأعمال الزراعية. وتنظر مصر بعين الرضا إلى أي استثمار تركي في هذه القطاعات. وقد فرض الصراع في أوكرانيا والأزمات الإقليمية الأخرى ضغوطا إضافية على المالية العامة في مصر. ويسعى القادة المصريون إلى إيجاد حلول قصيرة الأجل وطويلة الأجل لتجنب الزيادات غير المنضبطة في الأسعار والتضخم الذي قد يؤدي إلى عدم الاستقرار. ويُنظَر إلى رواد الأعمال الأتراك، الذين يتمتع العديد منهم بتاريخ طويل من العمل في مصر، باعتبارهم موردا قيما لزيادة الاستثمار الصناعي في مصر.
التحولات الإقليمية
القيادة السياسية في مصر تنظر إلى تركيا كشريك تجاري إقليمي مهم، مع اهتمام خاص بقطاعي الدفاع والزراعة
يرى فيديريكو دونيلي، الزميل غير المقيم في معهد أوريون للسياسات، في تحليل نشره المجلس الأطلسي، أن بالإضافة إلى العوامل المحلية، ساعد تطوران إقليميان في التقريب بين تركيا ومصر. الأول كان العمل العسكري الإسرائيلي ضد حماس ردا على هجوم السابع من أكتوبر 2023 حيث كان على كل من تركيا ومصر أن تبحر في مواقفهما بعناية.
وفي حين يتعاطف الجمهور التركي والمصري بشدة مع القضية الفلسطينية، فإن العلاقات المؤسسية طويلة الأمد بين أنقرة والقاهرة وإسرائيل، وخاصة في مجالات الاستخبارات والأمن، خلقت بعض الغموض.
والتطور الإقليمي الثاني الذي أدى إلى تقارب المصالح بين تركيا ومصر هو مذكرة التفاهم التي وقعتها إثيوبيا وأرض الصومال. فقد أدى الاتفاق بين أديس أبابا وهرجيسا إلى تكثيف التنافس بين إثيوبيا ومصر.
وإذا تم تنفيذه، فإن هذا الاتفاق من شأنه أن يسهل التجارة بين إثيوبيا وميناء بربرة. وهناك أيضا خطط لإثيوبيا لإنشاء مقرها البحري على ساحل أرض الصومال في مقابل الاعتراف باستقلال البلاد وتوفير أسهم في الشركات المملوكة للدولة.
وتنظر مصر وتركيا إلى مذكرة التفاهم باعتبارها تطورا سلبيا للمنطقة، ولكن لأسباب مختلفة.
أنقرة ترى أن تحسين العلاقات الإقليمية أمر بالغ الأهمية لتعزيز النمو الاقتصادي والاستقرار الداخلي وأن مصر سوق مهم للسلع التركية
وترى تركيا، التي تربطها علاقات قوية بإثيوبيا، أن الاتفاق مثير للقلق بسبب الاعتراف المحتمل بأرض الصومال. وكانت أنقرة منخرطة بنشاط في جهود بناء الدولة في الصومال لسنوات عديدة.
ومن المنظور التركي، يعتبر الحفاظ على سلامة أراضي الصومال أمرا ضروريا لاستقرار البلاد في المستقبل. ويعود تعنت تركيا في المقام الأول إلى اعتبارات سياسية محلية. والواقع أن القضية الكردية تجبر أنقرة على معارضة أي مطالبات بالاستقلال، بما في ذلك مطالبات أرض الصومال.
وعلى العكس من ذلك، فإن الشاغل الرئيسي لمصر هو إمكانية وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر. وقد اتسعت مؤخرا المنافسة بين إثيوبيا ومصر، التي كانت محصورة في السابق في حوض النيل. ومع اكتمال سد النهضة الإثيوبي الكبير، اكتسبت إثيوبيا نفوذا على مصر والقدرة على توريد الطاقة الرخيصة إلى البلدان الأخرى المتعطشة للطاقة في المنطقة، وبالتالي زيادة نفوذها.
ونتيجة لهذا، اضطرت القاهرة إلى تعديل نهجها وتوسيع نطاق الصراع. وعزز السيسي العلاقات مع العديد من الدول الإقليمية لإنشاء جبهة موحدة ضد إثيوبيا. وانخرطت القاهرة في دبلوماسية مكوكية، بما في ذلك زيارات رفيعة المستوى لزعماء في منطقة القرن الأفريقي.
وقد شملت هذه الجهود مشاركة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في تنصيب حسن شيخ محمود رئيسا للصومال. كما تمارس القاهرة الضغط المناهض لإثيوبيا في المنظمات الإقليمية والقارية.
ولذلك، ركزت السياسة الخارجية المصرية في المنطقة تدريجيا على البحر الأحمر. ولطالما نظرت مصر إلى البحر بين السويس وعدن باعتباره بحيرة مصرية، وبالتالي سعت إلى توسيع نطاق وجودها في منطقة تعتبرها جزءًا من مجال نفوذها. وعلى الرغم من أن عجز مصر عن معالجة التهديد الحوثي قد كشف عن ضعف البحرية المصرية، إلا أنها تظل الأكثر تقدما وتجهيزا في المنطقة.
تحديات التقارب

كان الاتجاه في العلاقات التركية – المصرية في الأشهر الأخيرة نحو التطبيع السريع. ومع ذلك، فإن التقارب لا يعني التغلب على الخلافات حول جميع القضايا الساخنة. ففي بعض القضايا الإقليمية، مثل ليبيا وشرق البحر المتوسط، تظل الدولتان بعيدتين عن بعضهما البعض وتتخذان مواقف متناقضة.
وفي ضوء ما سبق، قد تشكل المناورات السياسية التركية والمصرية في منطقة البحر الأحمر تحديا جديدا للتطبيع الكامل للعلاقات.
وفي البداية، قدمت الدولتان جبهة موحدة في دعمهما للصومال، وإن كان ذلك بأجندات أساسية مختلفة.
واستغلت مصر الفرصة لفتح جبهة جديدة في تنافسها مع إثيوبيا. وكانت تركيا بحاجة إلى الحفاظ على التزامها بعملية بناء الأمة الصومالية.
ومع ذلك، ظهر تباعد عندما قررت مصر زيادة وجودها العسكري في الصومال. ولذلك، ليس من قبيل المصادفة أن يتزامن انفتاح الصومال وإثيوبيا على خفض التصعيد، المنصوص عليه في إعلان أنقرة، مع الصعوبات التي تواجهها مصر في الحفاظ على التزامها بمقديشو.
ورغم أن المفاوضات التي ترعاها تركيا لا تحل المشاكل الصومالية – الإثيوبية، فإنها تعمل كوسيلة لكلا الطرفين للتوقف وربما إعادة التفكير في إستراتيجياتهما.
ومما لا شك فيه أن الخط الدبلوماسي التركي كان له حتى الآن اليد العليا على التعنت المصري.
وسوف تعتمد العديد من التطورات المستقبلية على عدة عوامل، بما في ذلك موقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الثانية، والاختيارات السياسية للحكومة الجديدة في أرض الصومال، والتوترات الداخلية المتزايدة في الصومال بين مقديشو والولايات الفيدرالية (على سبيل المثال جوبالاند)، وكلها ستخلق مرحلة حساسة في المنطقة.
وفي ظل هذه الظروف، من المرجح أن تشهد منطقة القرن الأفريقي قطيعة بين مصر وتركيا، ولكن أيضا عودة للديناميكيات التنافسية الإقليمية.
وتؤكد الديناميكيات المتغيرة بين تركيا ومصر على الطبيعة المعقدة للسياسة الإقليمية في القرن الأفريقي. وبينما تسعى كل من الدولتين إلى تحقيق مصالحها في حين تتعامل مع الضغوط الخارجية، فإن تفاعلاتهما لن تؤثر فقط على علاقتهما الثنائية ولكن أيضا على الاستقرار الجيوسياسي الأوسع في المنطقة.