مقالات وآراء

العودة لتأسيس جديد… ما بتشيل منّا الحلم والزاد

 

مهيد صديق

أكثر من 15 مليون سوداني وسودانية تأثروا مباشرة بالحرب، بينهم 11 مليون نازح داخلياً، و3.8 مليون لاجئ خارج البلاد. هؤلاء ليسوا مجرد أرقام في تقارير إخبارية، بل هم أهلنا، أبناء وطننا، الذين هُجّروا من بيوتهم ومدنهم وقراهم، وتحوّلت حياتهم إلى معسكرات نزوح ولجوء. هذه الأرقام تمثل أكبر كارثة إنسانية واجهناها في تاريخه الحديث، ولا يمكن تجاوزها أو تهميشها، عودة الناس لبيوتهم هي جزء من الحل الإنساني بدل معسكرات النزوح واللجوء والتشرد، وبدل ما نقعد نعتمد على مؤتمرات باريس والوعود الفارغة. رغم وضوح هذا المطلب الإنساني والأخلاقي، إلا أننا نلاحظ أن بيانات القوى السياسية والأحزاب التي تدّعي تمثيل الشعب تفتقد غالباً إلى التركيز على هذا الحق الأساسي. يُدغمسون هذا المطلب وسط عبارات كبيرة وتحليلات تاريخية طويلة، أو يربطونه بقضايا بعيدة عن الواقع الحالي. وفي أحيان أخرى، يتم تجاهله تماماً، وكأن معاناة الملايين ليست على جدول أعمالهم. كيف يمكن لهذه الأحزاب أن تتجاهل وتتناسي عن مدن الفاشر، الخرطوم، نيالا، مدني، الجنينة، وما حولها من قري وغيرها من المدن التي كانت تعجّ بالحياة وأصبحت الآن شبه خالية؟ كيف يمكن أن يغيب عنهم صوت هؤلاء الملايين الذين يريدون فقط العودة إلى بيوتهم واستعادة حياتهم اليومية؟ والأدهى من ذلك هو منطق “فلتسود الانتهاكات على الجميع”، الذي تتبناه بعض النخب بدافع التشفي أو تصفية الحسابات. هذا المنطق السام يُسوّي بين الظالم والمظلوم، ويتجاهل الواقع الأليم للنازحين واللاجئين الذين فقدوا كل شيء. لا يمكن بناء وطن على قاعدة المساواة في الانتهاكات بدلًا من السعي للعدالة والإنصاف. هذا المنطق ليس سوى تعبير عن حالة مرضية داخل النخب السياسية والثقافية التي تفتقر إلى الإحساس بمعاناة الناس العاديين. هذه المدن التي نتحدث عنها، مثل الخرطوم، نيالا، مدني، الجنينة والفاشر وغيرها، لم تكن يوماً حكراً على قبيلة واحدة أو إثنية واحدة أو حزب واحد. الخرطوم وحدها، على سبيل المثال، كانت تضم حوالي 5 ملايين نسمة من مختلف الأعراق والثقافات، مجتمعين تحت سقف واحد في مشهد يُجسد تنوع السودان. ويجسد الصراع السياسي والاجتماعي السلمي واحيانا العنيف بدرجات يسهل لجمها كل حين . اليوم، هذه المدن التي كانت نابضة بالحياة أصبحت خاوية على عروشها، تعكس مأساة وطن بأكمله. وفي قلب هذه الحرب، نجد أن قوات الجنجويد (الدعم السريع كما سماها المخلوع عمر البشير) قد عملت بشكل ممنهج على تنفيذ سياسات التهجير القسري وإفراغ المدن من سكانها في إطار محاولاتها لترسيخ سلطتها وفشلت للمرة مليون في جلب اي استقرار في مناطق سيطرتها. وفي المقابل، يعمل الجيش السوداني و القوات المتحالف معها على دعم جهود عودة الناس إلى مناطقهم في المناطق التي يستعيدوها، رغم كل الانتقادات والفذلكات حول كيزانيته او اذرعه ومليشاته ( ودي نقاط ما مقتنع بيها فانا اري ان اي قوة مسلحة متجانسة كالجيوش ليست بعيدة عن الصراع الاجتماعي وتتاثر به وبمطالب الجماهير) هذه العودة وما يتبعها ليست مجرد إجراء عسكري أو أمني، بل في قلبه مشروع سياسي يمارسه الان قادة الجيش بجانب العمل العسكري و هذا يضع الجيش في قلب المعادلة السياسة القادمة ولا يمكن التعامي عن هذه النقطة. النصر الحقيقي في هذه الحرب ليس في تحقيق مكاسب عسكرية أو السيطرة على الأراضي، بل في تحقيق تطلعات الشعب السوداني. النصر في هذه المرحلة في إعادة الناس إلى منازلهم، والعمل علي إحياء المدن التي كانت تحشد التنوع ، لتكون العودة إلى الدار هي بداية للعودة إلى قبول الآخر بعد التجربة القاسية. قد تنتهي الحرب بحسم عسكري كما يتراءى في المشهد هذه الايام او بتفاوض او تعاد دائرة اتساع الحرب، لكن يبقي مطلب العودة حاضر بقوة في كل الاوقات. وهنا استحضر مبدا سياسي (من يعمل مع الجماهير ويحقق رغباتهم ومطالبهم، هو المنتصر الحقيقي) ، لأن الافعال هي التي تُحدث الفرق، وليس الشعارات.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..