المذبحة كخطاب متكرر والمُشاهد قارئ بلا ذاكرة ولا اعتراض

إبراهيم برسي
في المشهد الإنساني الأكثر قتامة ، حيث تنطفئ الأنفس قبل أن يُزهق الجسد ، تتجلى ثلاثة كيانات تتشابك في رقصة مروعة : القاتل ، الضحية ، والمشاهد.
إن ما يحدث الآن في السودان ليس مجرد دمٍ يُسفك ، بل هو إعادة إنتاج مأساوية لسردية قديمة ، حيث يصبح الموت بيانًا ، ويُختزل الإنسان إلى مادة مرنة في أيدي سادة العنف.
هنا، لا يعود القتل فعلًا لحظيًا ، بل يتحول إلى بنية ، إلى نظام يعيد تشكيل العالم وفق منطقه الخاص ، حيث يتساوى الجسد بالرماد ، وحيث يتلاشى الفارق بين الحياة والموت ، لأن العيش تحت سطوة الذبح ليس إلا موتًا مؤجلًا.
القاتل في هذا المسرح الكابوسي ليس مجرد فرد يحمل سكينًا ، بل هو كائنٌ أُعيد تكوينه ليكون وسيلة ، حلقةً في سلسلةٍ لا نهاية لها من الإبادة الرمزية والمادية.
لم يكن يولد كذلك ، بل صُنع ، جُرّد من شعوره بالآخر ، وسُلب منه كل وعيٍ بالذات إلا بوصفها انعكاسًا لغايةٍ أكبر ، تبرر الذبح بوصفه طقسًا تطهيريًا ، وأداةً لإعادة ضبط العالم وفق تصور أيديولوجي مشوّه.
إن صناعة القاتل لا تتطلب فقط توفير سلاح ، بل تحتاج إلى عملية تفكيكٍ ممنهجة لكل بقايا التعاطف بداخله. إنها عملية تحول تدريجية ، تبدأ بالتجريد النفسي ، ثم تمر عبر الأدلجة ، لتنتهي باللحظة التي تتحول فيها اليد المرتجفة إلى يدٍ واثقة تُمسك السكين بلا تردد.
نيتشه كان يحذر من أن «من يحارب الوحوش عليه أن يحذر من أن يتحول إلى وحش» ، لكن ماذا إن كان المرء قد خُلق داخل فم الوحش ذاته؟! .
ماذا إن كانت كل معاييره ، منذ البداية، قد بُنيت داخل تلك العتمة ، بحيث لم يعد يرى النور إلا بوصفه خيانة؟ .
لكن ، إن كان القاتل قد فقد صلته بجوهر الإنسانية ، فإن الضحية تواجه المصير ذاته من الجهة الأخرى.
هنا ، لا يكون الموت مجرد إعدامٍ لجسد ، بل هو تدميرٌ لبنية المعنى.
في لحظة الذبح ، لا تُقتل الأجساد فقط بل يُقتل الزمن ، يُمحى كل شيءٍ سابق، ويُعاد تشكيل الواقع على مقاس الرعب.
الضحية ليست فقط فردًا يُباد ، بل هي رمزٌ يُراد تحطيمه ، فكرةٌ يُراد إسكاتها ، تاريخٌ يُراد شطبه. لهذا السبب ، لا يكون القتل مجرد إنهاءٍ للحياة ، بل تأكيدًا على أن الذابح هو من يحدد من يستحق البقاء ومن يُمحى من الوجود.
ما يميّز الجريمة المطلقة أنها لا تترك حتى للضحية حق الموت بمعناه الإنساني ، بل تسلب منه هيبته ، تحيله إلى مشهدٍ ، إلى استعراض ، حيث يتحول الجسد إلى نصٍّ مكتوبٍ بالدم ، نصٍّ يُقرأ من قبل الجميع ، لكنه في حقيقته صرخةٌ لا أحد يسمعها.
فيكتور فرانكل ، حين كان في معسكرات النازي ، لم يكن يرى المأساة في الموت ذاته ، بل في الطريقة التي كان يتم بها محو الإنسان من داخله قبل أن يُقتل ، حيث يتحول الضحية إلى شيءٍ ، إلى كيانٍ فقد كل خصوصيته ، ولم يعد يُعرف إلا بوصفه عددًا في قائمة الهلاك.
غير أن المشهد لا يكتمل إلا بذلك الطرف الذي يبدو الأكثر براءة ، لكنه ربما يكون الأكثر خطورة : المشاهد.
المشاهد الذي يجلس هناك ، سواء خلف شاشة هاتفه أو في قلب الحدث ، يراقب كيف يُذبح الإنسان ، كيف تُقطع أوصاله ، كيف تُمحى ملامحه ، ولا يدري أنه في تلك اللحظة ، يتحول هو نفسه إلى جزءٍ من آلة العنف.
حين نرى الدم مرةً ، نشعر بالفزع ، لكن حين نراه ألف مرة ، يصبح مجرد لونٍ آخر.
تتبلد الحواس ، تنخفض العتبة الأخلاقية ، ويتحول الرعب إلى عادة.
لكن ، ماذا يحدث عندما تصبح العادة هي القاعدة؟ عندما لا يعود القتل استثناءً ، بل مشهدًا يوميًا يمر أمام الأعين كما تمر الإعلانات على شاشة التلفاز ؟ عندها ، يصبح السؤال الأكثر رعبًا : متى نتوقف عن الإحساس أصلًا؟ .
الإنسان، بطبيعته ، يملك قدرةً هائلةً على التكيف ، لكن ماذا لو كان هذا التكيف هو عين السقوط؟! .
فرويد تحدث عن هذه الظاهرة بوصفها «التكرار القهري» ، حيث يعيد الإنسان إنتاج الصدمة حتى تفقد أثرها الأصلي، حتى يتماهى معها.
وحين يحدث ذلك ، فإن العنف لا يعود استثناءً ، بل يصبح جزءًا من النسيج النفسي للذات.
وماذا يحدث حين يتحول العنف إلى لغة؟ إلى نظام تواصلٍ غير معلن؟ .
عندها ، لا يعود الموت هو المشكلة ، بل الحياة في ظل هذا الموت المستمر.
المجتمعات التي تعتاد مشهد الذبح لا تبقى كما هي ، بل تعيد تشكيل نفسها وفق منطقه.
هنا ، يولد جيلٌ جديدٌ لا يعرف الحياة إلا كحالة طوارئ دائمة ، حيث تُصاغ الأحلام وفق قوانين الخوف ، وحيث لا يعود هناك فرقٌ كبيرٌ بين أن تكون قاتلًا أو ضحية ، لأن الجميع يعيش داخل نفس المسلخ ، فقط بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الإدراك.
ليس غريبًا أن يكون السلاح المفضل في هذه المشاهد الدموية ليس الرصاص ، بل السكين.
فالسكين ليس مجرد أداة قتل ، بل هو سلاحٌ ذو رمزيةٍ خاصة في الحروب الأهلية والمذابح العرقية.
السكين ، على عكس الرصاص ، لا يقتل بسرعة. إنه يمنح الجريمة امتدادًا زمنيًا ، يجعل الألم جزءًا لا يتجزأ من عملية الموت ، ويحوّل القاتل إلى سيد اللحظة ، حيث يُقرر كيف ، ومتى ، وبأي وتيرةٍ يمزّق أوصال الحياة.
حين نرى هذه المشاهد في السودان اليوم ، حيث تستخدم قوات العمل الخاص (كتائب الإسلاميين الارهابية) السكاكين لشجِّ الرؤوس ، وتقطيع الأيدي قبل الذبح ، فإن الأمر يتجاوز مجرد القتل إلى صناعة مشهدٍ متكاملٍ للرعب ، حيث يُراد للضحية أن تموت ببطء ، وللمجتمع أن يشاهد ، وللدم أن يتحول إلى الحبر الذي يُكتب به واقعٌ لا نهاية له من الرعب.
لكن ، هل هناك مخرجٌ من هذا الحصار الوجودي؟! أم أن الأمر مجرد إعادة تدويرٍ لا نهائي للدم؟! .
ربما يكون المخرج الوحيد هو في التمرد على بنية المشهد ذاته ، في رفض اللعبة بكاملها ، لا بممارسة العنف المضاد ، بل بكسر المنطق الذي يجعل من العنف ضرورة ، بكشف الخدعة الكبرى التي تجعل الإنسان يقبل أن يكون مجرد متفرجٍ على مذبحةٍ لا تنتهي.
لأن الخطر الحقيقي ليس في السكين الذي يقطع الجسد ، بل في العين التي ترى ولا ترتعش ، في الروح التي تشاهد ولا تسأل ، في القلب الذي يتوقف عن الخفقان أمام مشهد الموت ، ليس لأنه قد مات ، بل لأنه لم يعد يرى فرقًا بين الحياة والموت.