
عتقد دوائر سودانية أن انتصارات الجيش والمتحالفين معه ميدانيا على قوات الدعم السريع في معارك ولايات سنار والجزيرة ثم الخرطوم، قادرة على تحقيق السلام في البلاد أو أنها مؤشر على قرب استقرار الأوضاع، لكن الحقيقة أنها جزء من سلسلة ربما تطول أكثر مما ينبغي، فلا أحد يملك القوة الغاشمة التي تمكنه من التحكم في مفاصل الحرب، ووضع أجندة للسلام تتواءم مع مصالحه بمفرده.
أقرت قوات الدعم السريع بانكساراتها العسكرية مؤخرا، وقد تواجه المزيد من التدهور خلال الفترة المقبلة، في ظل التحسن الملحوظ في أداء الجيش ونجاحه في استرداد مناطق ذات أهمية إستراتيجية، لكن المشكلة أن مساحة السودان شاسعة، ويمكن أن يواجه الجيش موقفا شبيها بما واجهته الدعم السريع، حيث أغرتها قوتها وتقدمت كثيرا أمام تقهقر الجيش على أمل أن تخرجه من المعادلتين العسكرية والسياسية، ولم تستطع في النهاية الحفاظ على المناطق التي دخلتها، أو تتوقع أن يتمكن الجيش من إعادة ترتيب أوراقه بشكل جيد، ويكبدها خسائر فادحة لن تستطيع تعويضها قريبا.
ما أحدث الخلل في قوات الدعم السريع أنها فقدت الكثير من المساعدات الخارجية، بينما تمكن الجيش من الحصول على المزيد من جهات عدة، كما أن الشعبوية التي لجأت إليها غير مجدية، وانفض عنها كثيرون بعد حديث متواتر عن انتهاكات رصدتها تقارير دولية عديدة، مقابل توسيع الجيش دوائر المتحالفين معه، من جماعات مسلحة وميليشيات قبلية، ناهيك عن حشد كبير ممن يطلق عليهم اسم “المستنفرين”.
◄ لن تتحكم المعادلة الميدانية وحدها في السلام، لأن كل معارك السودان تتشكل من كر وفر وانتصارات وهزائم، وتعتمد على حروب العصابات. ولا توجد قوة قاهرة تستطيع أن تأمر وتنهى بلا مصدات مسلحة
وحافظ الجيش على شرعيته وسط شريحة كبيرة من السودانيين، ولم تتمكن قوات الدعم السريع من تشويه صورته في الداخل أو الخارج، ولم يخسر قائده، رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رمزيته السياسية ومكانته العسكرية، وأخفقت حملات النيل منها، وفشلت سردية وضع قرار المؤسسة العسكرية في جعبة قيادات الحركة الإسلامية لتقويض شرعيته لدى دول لها مواقف سلبية من جماعة الإخوان، ومرارات ناجمة عن تحكم الجماعة في السلطة خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير.
وفي الوقت الذي لم تستطع فيه قيادة الدعم السريع الحصول على شرعية تخول لها مساندة سياسية داخلية وخارجية كبيرة، زاد تأييد الجيش، ومن لهم تحفظات على ممارساته لم ينتقلوا إلى فريق خصمه اللدود، وظهرت تجليات هذه المسألة في مواقف قوى دولية وإقليمية أبدت تعاطفا أو حيادا حيال طرفي الصراع، لكنْ لم تنتقل أي منها إلى مربع قيادة الدعم السريع مباشرة، وهي التي أبدت تجاوبا مع مبادرات تفاوض متعددة، بينما كان الجيش متلكئا ومراوغا، بل ومراهنا على الحسم العسكري، وباتت معالم مختلفة من رهانه تتحقق تدريجيا.
أسهم التدهور على المستويين السياسي والعسكري في صفوف الدعم السريع في قلب أجزاء من المعادلة العامة بالسودان، وحصول الجيش على المزيد من التعاطف والتأييد لمواصلة الخيار العسكري باعتباره الطريق الوحيد الذي يجبر خصومه على التراجع، تمهيدا للتسليم بالهزيمة، وهذا لا يعني أن الأمن والهدوء والاستقرار والسلام أصبح قريبا من السودان، أو أن الجيش على وشك أن يقطف ثمار عملياته العسكرية الناجحة، وقوات الدعم السريع أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الاستسلام.
يصعب القفز إلى هذه النتيجة الآن، وسط الأوضاع المتشابكة في السودان، وتوسيع نطاق تحالفات الجيش مع عدد من الحركات والميليشيات، ولكل منها مطالب سوف تسعى إلى تحقيقها في اللحظة التي تشعر فيها بتحقيق مكاسب ميدانية كبيرة، واستمرار سيطرة عناصر الدعم السريع على مناطق واسعة، في مقدمتها أربع ولايات من خمس في إقليم دارفور، ما جعل التراجع أمام الجيش أخيرا يفسر على أنه تكتيكي، لإحكام السيطرة تماما على كل دارفور وحسم معركة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور.
ويبدو أن الجيش عازم على مواصلة تقدمه، وسيناريو تقوقع قوات الدعم السريع في دارفور لن يترك لتنفيذه بأريحية، لقطع الطريق على خيار تردد سابقا بشأن منحه حق الاستقلال، فقد خاض نظام البشير معارك طاحنة لمنع تطبيقه، ونجح في تفويت الفرصة على الانفصال، ولا يزال هناك قادة عسكريون لعبوا دورا في حسم الأمر لصالح الجيش في حرب دارفور الطويلة عندما لاحت بقوة ملامح الاستقلال، من بينهم الجنرال البرهان، ما يضفي أهمية على معركة الفاشر الراهنة. وتقوم القوة المشتركة، التي تضم حركات مسلحة، بدور معتبر في الدفاع عن الفاشر.
◄ التدهور على المستويين السياسي والعسكري في صفوف الدعم السريع أسهم في قلب أجزاء من المعادلة العامة بالسودان وحصول الجيش على المزيد من التعاطف والتأييد لمواصلة الخيار العسكري
تحمل انسحابات قوات الدعم السريع من مناطق واسعة في وسط السودان وشماله معنى تكتيكيا إذا ذهبت كل عناصرها إلى دارفور وصممت على حسم معركة الفاشر والانتصار فيها على القوة المشتركة، لتكون بحوزتها ورقة مهمة تساوم بها عند العودة إلى المفاوضات، أو تلوّح بشبح انفصال الإقليم، وهو ما يمكن أن يجد دعما من بعض القوى كحل للحرب المستعرة، خاصة أن ذكريات الانتهاكات في دارفور لم تسقط بالتقادم، ويتم استدعاء صورها عند الحديث عن الظلم والغبن والتجاوزات الإنسانية.
لن تتحكم المعادلة الميدانية وحدها في السلام، لأن كل معارك السودان تتشكل من كر وفر ومناوشات وانتصارات وهزائم، وتعتمد على حروب العصابات. ولا توجد قوة قاهرة أو مهيمنة تستطيع أن تأمر وتنهى بلا مصدات مسلحة على أساس قبلي أو جهوي أو ديني، وهو ما سوف تلجأ إليه قوات الدعم السريع، ويلزمها علاج ما خلفته من احتقانات سابقة وسط سكان دارفور عندما كانت تقاتل ضمن صفوف الجيش، وإجراء عملية مصالحة تطفئ النيران الكامنة بين ذوي الأصول العربية والأفريقية في الإقليم، والتي أسهمت في اشتعال الصراع خلال سنوات سابقة.
ويصعب على أي جهة أن تصل إلى السلام في السودان دون توافق وطني وتفاهمات تراعي خصوصيات كل إقليم، ما يعني أن تقدم الدعم السريع أو الجيش لن يفضي إلى الاستقرار، ويدخل البلاد في دوامات وفصول جديدة من العنف، إذا غرّت القوة أحدهما وتصور أنه قادر على التحكم في مجريات الأمور، أو بدت القوى السياسية الحية في السودان لا قيمة أو وزن لها ولن تؤثر في المشهد العام، وهي أحد العناصر التي تحفظ للسودان توازنه، ويتم تهميشها أو استقطابها لتفريغها من دورها.
ولا تصلح فكرة التوازن الهش في السودان لإجبار الأطراف المتصارعة على التفاوض، كما أن الحسم أو الانتصار الكاسح يصعب حدوثهما، بالتالي لا مجال سوى العودة إلى طاولة التفاوض، وتاريخ السودان مليء بحروب انتهت من خلال هذه القاعدة، والاعتراف بأنها المسار الوحيد الذي يتحكم في تحقيق السلام.
العرب