مقالات وآراء

حفلات التفاهة!

 

جاء في الحكاية أن الزعيم الشيوعي جوزف ستالين، قرر ذات يوم الذهاب إلى الصيد، فانتعل حذاء تزلُّج، وتنكّب بندقية صيد طويلة، واجتاز مسافة ( 13 ) كيلومتراً، وعندئذ، شاهد أمامه طيور جاثمة فوق شجرة، توّقف ستالين، و حسب أعداد الطيور، فوجدهن( 24 ) طائرا؛ إلا أن الزعيم اكتشف أن عدد الطلقات التي كانت بحوزته بلغت (١٢ )طلقةً قتل بها ( 12 ) طائراً.
لم يتذمر الزعيم العظيم، لكنه عاد إلى قصره ليحمل معه ( 12 طلقة) أخرى ؛ ليجتاز ذات المسافة ( ٢٦) كيلو متراً ذهاباً وإياباً، فوجد ذات الطيور تنتظره على الاغصان في حبورٍ، ترقص محبةً في قوة الرجل الخارقة! الذي أكمل رحلته باصطياد الطيور المنتظرة.
وردت قصة ستالين، في رواية ” حفلة التفاهة” للروائي التشيكي ميلان كونديرا، وهي رواية ساخرة مثل كل كتابات الروائي الهارب غرباً من النظام الشيوعي، وتكمن السخرية في أن الجميع يصدقون الزعيم، ولا يجرؤ أحدٌ وقتها لتكذيبه، أو لمجرد التلميح الى لا معقولية الحكاية، لكنهم بالطبع يضحكون عندما يذهبون إلى الحمامات للتبول، ولم يستنكروا الحكاية إلا في عهد خروتشوف بعد وفاة ستالين.
وأنا أفكر في حالنا تذكرتُ الرواية، وقرأتها من جديد خلال يومٍ كامل، ثم ذكرتني حكاية طيور ستالين، الوديعة، قصص ” الغزلان التي كانت تتكئ على الأرض وتمد رقبتها للمجاهد، وتقول له في دلالٍ حتى يرق قلبه ” اذبحني.. اذبحني”، وذكرتني الرواية حكايات تلك القرود المؤمنة والمشاغبة التي كانت تنتشر عسكرياً وسط أدغال الجنوب متقدمةً على الجيوش، تبحث عن الألغام الأرضية لانتزاعها حتى تفتح الطريق للمجاهدين.
تفوَّقت تلك الحكايات المثيرة على دراما هوليود اثارةً، ونجحت في اقناع فئات من الشباب المتبطل أيام انبعاث روائح المسك التي كانت تعطر كل غابات الجنوب، وقصص الهوس الديني، ومغامرات اغواء المقاتلين بهدف الانضمام للجهاد طمعاً في الزواج من الحور العين.
صمموا تلك لأساطير بغرض التعبئة في الحرب؛ وفبركوا الحكايات، وبثوا الأكاذيب لتضليلً المستهدفين.
لقد عملت مؤسسات وبرامج مثل ساحات الفداء على صناعة الخرافات، ونسج الأساطير، وخلق البطولات الخارقة، واجتهدت في تهيئة الأجواء للمساعدة في تصديق تلك الصناعات مهما كانت درجة سخافتها، ومقدار تفاهتها، فهي قصص صُممت من أجل تغييب العقل، وايصاله مرحلة فقدان القدرة على التمييز ما بين الحقيقة والخيال، ومعرفة الغث من الثمين، والتفريق بين المعقول واللامعقول.
هذه يا سيدي هي مهام الطغاة على مر العصور والأزمان، دوماً يسعون للسيطرة على العقول بعد تغييش رؤيتها، وتغييب فضيلة التفكير فيها، ويستخدمون في ذلك مناهج علم النفس بكل أفرعه؛ لا سيما علم النفس الاجتماعي، ويرى الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبان في كتابه العظيم ” سيكولوجية الجماهير” إن العديد من خصائص الجماهير الخصوصية، من مثل سرعة الانفعال، والنزق، والعجز عن المحاكمة العقلية وانعدام الرأي الشخصي والروح النقدية والمبالغة في العواطف والمشاعر، وغيرها، كل ذلك نلاحظه لدى الكائنات التي تنتمي إلى الأشكال الدنيا من التطور كالشخص الوحش، أو الطفل مثلاً، وهذه المقارنة التشبيهية لا أثيرها هنا إلا عرضاً” ، والجماهير عرضة للتحريض، ولدغدغة المشاعر، والعواطف، لكنها تحتاج في عملية تعبئتها وحشدها إلى ” محفزات” ومن السهل للأشخاص المقهورين تصديق أي دعاية مبعوثة من ” الجهة القاهرة” كنوعً من الوسائل الدفاعية لتفادي بطش المتسلط، مثلما يصدقها التابعون والموالون والمعجبون.
وتلجأ المؤسسات الباطشة لدغدغة المشاعر والغرائز داخل النفس البشرية؛ عن طريق الترغيب أو الترهيب، وكان هيتلر يعتمد في دعايته على ” إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم في خطر، وحذرهم من أن أمنهم تحت التهديد، وأن المعارضين خونة وعملاء”، فتكون النتيجة حشد الناس حوله، وفقدان المعارضة لشرعيتها، وهو ما اتبعه نظام ” الإنقاذ” بطرقه الدائم على ” المؤامرة” و” العدو الخارجي والعملاء الداخليين”.
لكي ينجح المخطط كان لا بد من صنع أكاذيب والنفخ فيها باستمرار مثل أن تقول تقدم ” حاضنة سياسية للجنجويد”، ثم تجرى عملية اشتقاقات لفظية تحمل ذات المعنى، ويستمر الطرق العنيف عليها عبر التكرار، أو تقسيم السودانيين إلى اثنين، الأول وطني، والثاني ” عميل” ويتم توزيع البطاقات بمزاجٍ طائش، واحساس غير متوازن، وتسويق ذلك ، وتكراره، وبثه بطرق متعددة؛ ومن ثمّ تحميل المدنية كل أوزار الحرب، بالاستفادة من جاذبية عنوان صحفي مبتسر ” الإطاري أو الحرب”.
هكذا تمر اللعبة بإتقان شديد، لتكتمل عملية السيطرة على العقول بعد سلبها من كل مزايا التفكير الحر والمستقل، وتجريدها من المنطق المبني على مفاهيم التفكيك والتركيب، الاستنباط والاستنتاج، وجدل الترابط ما بين الكل والجزء والمقدمات والنتائج، وبالتالي سيطرة التفكير السطحي على التفكير العميق خلال حقب الانحطاط والجهل والتجهيل والتضليل.
انتشرت دعاية دعاة الحرب، وعملت على الترويج لرواية تورط القوى المدنية في اشعال حرائق الحشى، والمدائن، في وقت صرفت فيه الأنظار عن أبواقهم الإعلامية التي ما فتئت تدق طبول الحرب.
حرصوا على إطلاق قنابل دخانية لتعمي ابصار وبصائر البعض؛ حتى صارت تلك الفئة المخدوعة كائنات خفيفة الوزن، تسير حيثما نعقت الأبواق نعيق الدمار، تأخذها روح القطيع فتمارس خداع الذات، فترى الأفيال لكنها تفضِّل الطعن في الظلال.
خلقت تلك الدعاية واقعاً بئيساً، حيث استثمرت في الغفلة، وصنعت الآلاف من الأشخاص الشائهين، الذين يرقصون فوق جثث الأبرياء، وتسعدهم مشاهدة سكاكين صدئة تذبح أعناق الرجال من الوريد إلى الوريد، وتبقر بطون النساء الحوامل، فتتفتح شهية تلك النفوس لرائحة الشواء الآدمي.
أسس الإسلاميون منذ قديم الزمان في سبيل الوصول الى السلطة لهذا الواقع، حيث ثابروا على رفع رايات القتل والسحل والنهب والسطو، واجتهدوا في نشر نشيد الموت ” فلترق كل الدماء”، ذلك الشعار العبثي والصفري؛ الذي خلق ندبات غائرة داخل نفوس الفئات المغيَّبة، فأسكرت عقولها أناشيد العدم.
لقد جعلت الدعاية السوداء القلوب كالحجارة أو أشد قساوةً، وعلمتها استسهال الموت وتطبيع جرائم القتل خارج القانون، كأننا نعيش وسط غابة تنتشر بين أدغالها السباع والضباع، فتطبع كثيرون مع حفلات الشواء في الوسائط الاجتماعية، وحفلات التفاهة في الواقع.
هكذا دخلنا حفلة ” التفاهة” وكأن بطل الرواية يقصدنا نحن عندما قال ” ” التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان، إنها حاضرة حتى في المكان الذي لايرغب أحد برؤيتها فيه؛ في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب”، تلك الحالة التي جعلت رفاق ستالين، يصدقون أكاذيبه خوفاً من بطشه وتملقاً لسلطته، أو ليست هي الحالة التي تطرب البعض وتدفعه للرقص على سلالم الموت الداعشي؟

‫4 تعليقات

  1. للاسف يظن كثيرون ان اسوا فعائل الانقاذ كان الفساد ولكن الصحيح ان اقبح ما صنعته الانقاذ سيما بالشباب كان تشويه المعتقدات اذ عمدت الانقاذ على تبجيل الصوفية بشكل غير مسبوق واسبغت عليها قدرا من الهالة والقداسة وصارت هى المرجعية فى التفكير والتخطيط والتنفيذ وما بلة الغائب زالبرعى الا المثال الاوضح لما اقول ..ظهرت خزعبلات فى اعلام الانقاذ ما انزل الله بها من سلطان ابطالها امثال اسحق فضل الله فى ساحات الفداء وحكية الغزلان التى قدمت نفسها لتكون عشاء للمجاهدين او القردة التى كانت تفجر الالغام فداء لجحافل جيش الاسلام الانقاذى.. هذه الاساطير قادت الى نتائج عكسية مدمرة فقد صارت التدين مثارا للاستخفاف والتندر بل اتجه معظم الشباب هاصة فى الجامعات الى تبنى افكار ربما كنت منحرفة فى النظرة الى التدين بشكل عام فانتشرت معتقدات لم نسمع بها من قبل فى السودان وهى ربما تكون قادمة الينا من الخارج فقد سمعنا بشباب يعبدون شروق الشمس فى ضفاف النيل وانتشرت ايضا مظاهر الدجل والعودة مثل ذلك الشيخ الذى قيل عنه ان ( حيرانو جكس ومحايتو بيبسى) .. حكى لى صديق عمل فى غرب افريقيا ان باحثى خدمات دجالى غرب افريقيا من قبل السلطة الانقاذية قد انتشروا فى تلك البقاع حاملين معهم مئات الالاف او ملايين الدولارات مقابل القيام باعمال تلجم السودانيين عن النطق بكلمة ضد الانقاذ حتى ان بعضهم هؤلاء الدجالين قد اعد طلاسم ومحايا تخلط بمياه الشرب فى خزانات المياه لذات الغلاض… ولعلنا نذكر ان فى احد المؤتمرات دعا احدهم قد دعا الى تسخير الجن لطباعة بعض الدولارات لاصلاح حال الاقتصاد السودانى ,,, تصورا دولة دينية تعتمد الشعوذة والدجل سبيلا لادارة شانها … وكان لكل مسؤول شيخ بل ان بعضهم كان يتظاهر بالصلاح والبركة وهو ابعد ما يكونون عن ذلك شيخ ,,,, المشهود له سوء الطبع والسلوك منذ دراسته بالجامعة… شيخ فلان …… ذلك الذى كان يقاطع فى شارع النيل باحثا عن لذة مذمومة عقابها ان جبريل عليه السلام قد بعثه الله ليجعل عاليها سافلها وهذا الشيخ قد سمى عليه مسجد فى المعمورة,,, انهم كثر يصعب احصاؤعم ولكن ماقدموه لم يكن ذا علاقة بالدين والتدين ,, وكلها ضمن حفلات التفاهة وسلوك التفاهة ايضا…

    1. يا اخ ديكو وقد راجت نكتة لا ندري مدي نصيبها من الصحة …
      قالو الفريق بكري حسن صالح مشى لاحد الفقرة الدحالين قال ليهو دايرك تعمل لي كادوك أنا السلطة دي ما أفارقها كلو كلو …
      االفكي قال ليهو: خلاص جيب لي الكرسي أعزم ليك فيهو..
      فكان رد الفريق -وهو صاحب خدرة و سطلات-: الكرسي يمكن يغيّرو أعزم لي في جعباتي ديل …

  2. مشكلة الأيدلوجية تجعل الشخص المدلجة يري الحياة من خلال الايدلوجية التّي يؤمن بها لذلك الحياة بالنسبة له شديدة التعقيد لايستطيع التعامل مع ابسط الاشياء مثل شخص دخل منزل سرق و اغتصب و قتل وشرد لابد الضحية ان يكتم كل احساسه حتي يفرغ اصاحب الأيدلوجية من تحليلهم معمّق بعدها يخبروه ماذا يفعل في مصيبته.

  3. يجب اضافة مادة (التفكير النقدي) في مقررات مدارسنا ، لقد وجدت انها مدرجة في مقررات دول الخليج ، وهي كذلك في مقررات الغرب منذ زمن بعيد .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..