المثقف بين الفاعلية والتنظير : مأزق الفعل المؤجل

إبراهيم برسي
هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف ، لحظةٌ لا تأتي دفعةً واحدة ، بل تتسلل عبر الزمن ، عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة ، عبر الصمت الذي يتراكم حوله ، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه : هل أنا جزءٌ من الفعل ، أم مجرد شاهدٍ على أطلاله؟ هل أنا منتجٌ للمعرفة ، أم مُجرّد مستهلكٍ لسردياتٍ لا تغيّر من مواضع السلطة شيئًا؟ .
إن المثقف ليس مجرد حامل أفكار ، بل هو حاملٌ لقلقٍ دائم ، لوعيٍ مفتوحٍ على الأسئلة التي لا تنتهي. لكنه ، في عالمٍ تحكمه الصورة وتعيد إنتاجه القوة ، يجد نفسه في مأزقٍ لا يشبه أزماته القديمة. لم يعُد السؤال هو: كيف نُغيّر العالم؟ بل أصبح : هل لا يزال العالم يقبل بالتغيير أصلًا؟ .
لقد كتب إدغار موران ، وهو أحد أكثر العقول النقدية حدّة في عصرنا ، أن : “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا” . هنا تنكشف أزمة المثقف المعاصر : إنه يملك القدرة على تفكيك الظواهر، لكنه يعجز عن إعادة تركيبها ، يملك المهارة في تحليل الأنساق ، لكنه لا يستطيع صياغة رؤية بديلة. إنه عالق في حالةٍ من “الوعي المتشظي”، حيث يُصبح النقد فعلًا مغلقًا ، يُعيد إنتاج نفسه بلا أفقٍ للفعل.
وفي ظل هذه الأزمة ، يبدو أن المثقف قد تحوّل من كيانٍ مؤثر إلى شاهدٍ مأزوم ، يتنقل بين تأمل الواقع وتحليل انسداداته ، لكنه نادرًا ما يتجاوز تلك المرحلة إلى إعادة تشكيله. إنه يعيش في مساحةٍ بينية ، حيث المعرفة موجودة ، لكن الفعل مؤجلٌ إلى أجلٍ غير معلوم.
لم يكن هذا حال المثقف دائمًا. فقد ظلّ، عبر التاريخ ، في موضع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير ، بين الأفكار وصُنّاع القرار ، بين المعرفة وضرورات الفعل.
في العصور القديمة ، كان الفيلسوف هو مرآة المدينة ، كما في حالة أفلاطون وأرسطو. أما في العصور الحديثة ، فقد أصبح المثقف شاهدًا على ولادة الدول القومية ، ومهندسًا للأيديولوجيات التي صنعت العالم الحديث.
لكن أين يقف اليوم؟
غير أن المثقف ، في هذا الزمن المُعلّق بين ما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة ، لم يعد حتى ذلك الفاعل المتردد بين الفكرة والممارسة ، بل أصبح ذاته كيانًا مأزومًا، مُستهلكًا داخل دوائر التنظير ، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه.
إن ما بعد الحداثة ، وهي مشروعٌ هائلٌ من الشك ، لم تُنتج سوى تفكيكٍ لا بناء بعده ، تفكيرٍ لا ينتهي إلى الفعل ، ووعيٍ يتآكل تحت وطأة احتمالاتٍ لا تُحسم.
لقد صار المثقف ، في عصر الاستعراض الدائم ، كيانًا مفتوحًا للفرجة أكثر منه فاعلًا في التغيير. تحوّل إلى مُحلّلٍ للأحداث لا صانع لها ، إلى ناقدٍ مستهلكٍ في محافل الأكاديميا ، إلى شاهدٍ يُفكّك السرديات لكنه لا يجرؤ على صناعة سردية بديلة.
لقد تم تدجينه داخل آليات صناعة الرأي ، داخل مؤسساتٍ تُعيد إنتاج النقد كسلعة ، داخل شبكاتٍ يُصبح فيها الخطاب ذاته جزءًا من السوق ، من آليات الامتصاص التي تُفرغ الفكرة من قدرتها على الصدمة.
وهكذا، يبدو المثقف محاصرًا بين خيارين متناقضين: إما أن يصبح جزءًا من المؤسسة ، فيفقد استقلاله ، أو أن يبقى على الهامش ، فيفقد تأثيره.
فالسلطة لم تَعُد تكتفي بإسكات المثقف بل امتصت دوره ، جعلته جزءًا من بنيتها الرمزية ، قدّمت له منابر يظن أنها مساحاتٌ حرة ، لكنها في الحقيقة ليست سوى غرفٍ مُغلقة ، تُعيد تدوير الخطاب في دوائر لا تنتهي.
ولكن، في عصرٍ يختزل كل شيء إلى صورة، إلى جملةٍ قصيرة ، إلى رأيٍ عابر على منصةٍ افتراضية ، هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق؟ هل لا يزال المثقف قادرًا على ممارسة دوره خارج الاستعراض ، خارج الشبكات التي تُعيد إنتاج كل شيءٍ في قالبٍ يمكن استهلاكه سريعًا؟ .
أم أن الفكر النقدي قد أصبح بدوره أسيرًا لهذا التدفق السريع ، عاجزًا عن التوقف طويلًا أمام أي شيء؟ .
إن الفاعلية لا تعني فقط الانخراط المباشر في الصراع ، بل تعني أيضًا إعادة تشكيل الخيال السياسي ، إعادة إنتاج الأفق الذي يجعل من التغيير ممكنًا.
ولكن ، إذا كان المثقف قد تخلى عن هذه المهمة ، إذا كان قد انزلق إلى موقع “المُفسّر” لا “المُحرّك” ، فمن الذي سيتولى إعادة تشكيل العالم؟ .
هل ستكون الجماهير وحدها قادرةً على ذلك؟ .
أم أن الجماهير ، التي تستهلك الشعارات بدورها ، ليست إلا انعكاسًا لعجز المثقف عن إنتاج رؤيةٍ واضحة؟.
إن العالم لا ينتظر المثقف ، ولا يتوقف عند تنظيراته. إن لم يُنتج أدواته الخاصة للتفاعل مع الواقع ، فإن قوى أخرى ستملأ الفراغ ، وستُعيد صياغة المشهد دون أن تأخذ رأيه بالحسبان.
إن المثقف ، إن لم يكن فاعلًا ، فهو ليس سوى ظلٍّ يتلاشى عند أول اختبارٍ للقوة.
في النهاية ، ليس السؤال : هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟ .
بل السؤال الأهم : هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟ .
وهل بقي للفكر النقدي قدرةٌ على تجاوز الصدى ليُصبح صرخة؟ .
أم أن الزمن قد تجاوز المُفكرين ليُصبح لعبةً تُحسم في الشارع ، في السوق ، في الإعلام ، حيث لا مكان لمن يتردّد أو يفكّر طويلًا؟ .
إن الفارق بين الفاعلية والتنظير لم يَعُد مجرد خيار ، بل أصبح معضلةً تخصّ وجود الفكر ذاته :
هل لا يزال الفكر قادرًا على التأثير ، أم أن دوره قد انتهى ليُصبح فقط تعقيبًا هامشيًا على الأحداث؟ .
وهل انتهى زمن الأسئلة العميقة ، ليبدأ عصرُ الإجابات السريعة؟ .
أم أن المثقف ، حتى في عجزه ، لا يزال يملك قوةً لم تُستنفد بعد ، قوة السؤال الذي لم يجد جوابه بعد؟ .