الموسيقيان يوسف الموصلي وسيف الجامعة نموذجاً: حول ظاهرة غسل البشر وإعادة تدويرهم في أوساط الساسة والمثقفين والفنانين السودانيين

عبد الجبار عبد الله
مما يُحكَى في هذا من وجهه الاجتماعي في حياة السودانيين، أنّ أحد أفراد قرية ما، توفي في هجعةِ ليلٍ شتويٍ قارس البرد كالح الظلام، ولكنه الواجب إكرامُ الميت في دفنه كما درجت العادة الاجتماعية والدينية في مثل هذه المناسبات. هبّت نساء الحِلّة ورجالها عن بكرة أبيهم على قدمٍ واحدة، نحيباً وولولةً ونواحاً شق عنان السماء إلى القرى المجاورة، تَحزَّم الرجال شدُّوا أذرعهم وشمّروا عن سواعدهم، منهم من جَلَب الماءَ وخاطَ الكَفَن ومنهم من هرع إلى المقابر استباقا لحفر ود الأحد وحمل الجثمان وتشييعه إلى مثواه الأخير، منهم من مدَّ يده في الغسل والتحضير، أوقدوا المشاعل والفوانيس والبطاريات، حملوا الجثمان، وسَّدُّوهو الباردة، صلّوا عليه استذكروا محاسنه ومناقبه، دعوا له بالصالحات عسى أن يتقبله الله برحمته الواسعة بين أصحاب اليمين. كل هذا عدا واحداً من رجال القرية تخلّف عن الركب، تدمدم في عنقريبه وانطوى على نفسه خِشيةً عليها ورِفقاً بها من قسوة البرد وشدته. لكن وما ان انبلج الفجر وصاح الديك حتى هبَّ واقفا من غفلته وغفوته، مضى إلى زوجته التي حضَّرت له براد الشاي والكبابي فحمل صينيته وذهب بها كما يفعل الرجال إلى حيث اجتمع الناس في بيت العزاء. “السلام عليكم” قالها بصوت جهور حرص أن يسمعه الجميع، وجسمُه مائلٌ ونِصفُ جالسٍ على برشٍ العزاء.
لكن وقبل أن تستقر صينيته ويكمل جلسته على البرش، كَحَله من طرفٍ بعيد هناك ابن المرحوم الكبير، فانتهره قائلا بصوتٍ أجشٍّ جَهُور: “يا محمد أحمد شيل براد شاهيك دا واتخارج، أنا امبارح ما شفتك في الدافنة مع الرُّجال” الله.. السوّاها رَقَدت تَبْ. فكان ما كان من أمر فلان الذي مادت الأرض تحت قدميه، ارتجفت يداه، اهتزت الكبابي تطايرت تناثرت، بردت ركبتاه حين سرى اللوم من قدمه صعوداً إلى وجهه بغتةً بسرعة البرق كما يجري المثل.
في باكر عهد الإنقاذ وأيام الكيزان نشوةً بخمرٍ السلطة وهُوشةً بشعارات “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع” كان مذيعٌ من التلفزيون القومي قد تكبّد عناء السفر من امدرمان إلى المزارعين في قرى حلفا الجديدة عسى أن يفوز منهم بإفادات تعزز شعارهم الممحوق البائر. وكانت اللقاءات مع المزارعين مبثوثة على الهواء مباشرة دون حذفٍ أو قصقصةٍ أو مونتاج.
قال المذيع لعمنا المزارع عبد الحميد: أها كيف محصول القمح السنة دي؟
فرد عليه قائلاً بلا تردد: “والله يا ابني السنة دي “أزرت” من اللي قبله.
كيف يعني؟ قالها المذيع محتجاً: أهو ما شاء الله أنا شايف قناديل القمح على مد البصر، كيف تقول المحصول ما أحسن السنة دي.
والله يا ابني زي ما أقول لك: السنة دا أزرت، المهصول دا كله فاشل ما يغرّك القناديل.
ما بين الموسيقى وبيت العزاء وقناديل القمح التالفة!
حين وقعت عيني مؤخرا على بيانٍ صادرٍ عن “المبدعين السودانيين” ممهورٍ بتوقيعاتِ عددٍ من الأدباء والكتاب والفنانين/ت من مختلف المجالات، على رأسهم الموسيقار يوسف الموصلي وفي ذيل القائمة الفنان سيف الجامعة، ضربتُ كفاً بكف وقفزت إلى ذاكرتي صورة فلان وذاك بيت العزاء وقصة المزارع عبد الحميد مع مذيع “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع”.
كيف؟ لستُ ضد البيان بحد ذاته ولا اعتراض لي على محتواه الناقد للانتهاكات والفظائع وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق المدنيين في السودان وجنوب السودان كما تناقلتها الأخبار مؤخراً، فضلا عن دعوته إلى المساءلة عن تلك الانتهاكات وإلى التضامن والعمل المشترك بين المبدعين في السودان وجنوب السودان.
ولكن هل يصح أن نفعل هذا على طريقة “لمَّ لميمنا” دون فرز للمواقف بين دعاة الحرب والطغيان ودعاة الحرية والسلام، بين من تغنى بالأمس القريب قارعاً طبول الحرب ليصدح اليوم فجأة بأغنيات الحرية والسلام؟
ففي بواكير العام ٢٠٢١، ودماء شهداء جريمة فض الاعتصام النكراء أمام بوابة القيادة العامة للجيش لم تجف بعد، وكانت فلول النظام البائد تعد العدّة وتحث الخطى في زحفها الأخضر نحو اعتصامهم الذي انعقد لواؤه في ١٦ أكتوبر قبالة القصر الجمهوري، فيما اشتهر حينها باعتصام الموز، لتهيئ الساحة السياسية لانقلاب اللجنة الأمنية بقيادة بطلهم الشعبي الزائف الفريق البرهان على الوثيقة الدستورية وما نصت عليه من تسليم الحكم للسلطة المدنية في ٢٥ أكتوبر عام ٢٠٢١ وصولا إلى الحرب الدائرة الآن، صدحت حنجرة يوسف الموصلي وسيف الجامعة بمشاركة عدد من أشهر الفنانين والفنانات، بألحان “أوبريت جيشنا” التي تقول بعض كلماته الماسخة عديمة اللون والطعم والرائحة:
جيشنا يا أصل القضية
جيشنا يا أشرف هوية
يا مواقفنا وصمودنا
في الملمَات العصيّة
جيشنا كلمة
جيشنا حكمة
جيشنا وردة وبندقية.
جيشنا بي مواقفو النبيلة
عِزّو من عَزَّة وخليلا
حامي أرضو
وحامي ِعرضو
وماسِك السِكَّة العديلة
جيشنا في كل المواقف
ياهو شيّال التقيلة
رابط لمشاهدة إطلاق أوبريت جيشنا في ٣١ يناير ٢٠٢١
https://www.facebook.com/watch/?v=754390882150088
كان ذلك الأوبريت في واقع الأمر قرعاً لطبول الحرب على الجارة إثيوبيا بدعوى اعتدائها على جزء من الأراضي السودانية الواقعة على الحدود في جبال الأنقسنا، وكأن جيش الهنا قد حرَّر قبلها أراضي مثلث حلايب وشلاتين والفشقة نفسها التي انتزعتها مصر وإثيوبيا بوضع اليد، وكأن الحروب وحدها هي الطريق الأمثل لحل المنازعات بين الدول.
حينها ذهب فنانو “الحوبة” كما قالوا وقلن لرفع الروح المعنوية للجنود السودانيين في معركة بلا معترك ولم تطلق فيها رصاصة واحدة! فانتهت المؤازرة المزعومة إلى ذبائح وولائم وحفلات راقصة وإلى عطايا ومكافآت وظروف “منبولة” بالنقود المسروقة من عَرَق الغلابة ولُقمة الأطفال واليتامي المحرومين لحضرة الفنانين والفنانات المشاركات في الأوبريت.
تعيدني هذه الكتابة إلى سلسلة مقالات وحوارات كنت قد نشرتها في حينها تحت عنوان ” وجه ماكبث وراء قناع سوداني: فنانون ومسرحيون في سوق نخاسة العسكر” بيّنتُ فيها كيف يمكن للفن أن يسهم في تزييف الوعي وفي صناعة البطل الشعبي الزائف فنياً وجمالياً، على نحو ما ساهم فنانو “أوبريت جيشنا” في صناعة البطولة الزائفة للجنرال البرهان فنياً وجمالياً، وهو بيت القصيد من كل تلك الهيلمانة والزيطة والزمبريطة التي حصلت في تخوم الجارة إثيوبيا.
رابط لسلسلة المقالات
وجه ماكبِث وراء قناع سوداني: فنانون ومسرحيون في سوق نخاسة العسكر
فهاهو البطل الزائف وقد أصبح الآن رمزاً وقائداً لحرب ما يسمى بـ”العزة والكرامة” الرامية إلى التصفية النهائية لثورة ديسمبر المجيدة، وها هو الموصلي الآن وقد فوجئ بما صنعت حنجرته وهو يتولى مؤخراً التوزيع الموسيقي لأغنية “متين نشوف الخرطوم” من كلمات الصديقة الأستاذة تماضر شيخ الدين المستوحاة من أهازيج أغنية قديمة لا أذكر مؤلفها لعلها ذاعت حينها بعنوان “القروية” المتشوقة لرؤية الخرطوم.
مشتاقين متين نشوف الخرطوم
قالوا في الخرطوم الدانة بالفجرية
وقالوا لي في الخرطوم طيارة ميج حربية
وقالوا لَي التاتشر لافي بالدورية
وقالوا لَي الرصاص مطرو للدُغشية
وقالوا لَي الخرطوم هدَّوا حِيْل سُكّانا
ناسا هَجُّوا ونزحوا والبيوت خربانة
وقالوا لَي الحِيطة واقعة فيها الدانة
نحنا بس يا الله رحمتَك تغشانا
وقالوا لَي لا كوبري لا جامعة لا مستشفى
وقالوا لَي أسواقا فاضية يوم الوقفة
وقالوا لَي كبارها ميتين وجاتُم رجفة
وقالوا لي أطفالها لُقمة تصبح لاهفة
إلى آخر كلمات الأغنية التي تصور مأساة الحرب وأهوالها.
رابط لأغنية مشتاقين نشوف الخرطوم
https://www.youtube.com/watch?v=zYmER_RiHz4…
وللمفارقة، فإن الفنانين الموصلي وسيف الجامعة وغيرهما كانوا قد تغنّوا بكلمات وألحان “أوبريت جيشنا” على خلفية صور ذاتِ الطائرات والدبابات ومدافع الهاون والدوشكا والراجمات، تمجيدا لذاتِ الآلية الحربية المدمرة التي هالهم ما فعلته بالإنسان والأرض والوطن خلال هذه الحرب!
هكذا يكون الفنان حين يغني بلا موقف ولا رؤية ولا مشروع ولا بوصلة، فيأتي غناؤه على النهج التوليفي الأركومناوي “شويّة معَ دُوْل وشويّة معَ دُوْل”، وهو النهج الذي غتّس حجر السودان ويظل يفتح الباب على مصراعيه أمام غسل البشر وإعادة تدويرهم في الفن والسياسة وفي كل شيء، اقتباسا من العبارة الإنجليزية
Money laundering & recycling
هكذا ترى أحدهم يعمل “السبعة وزمتها” ثم يأتي عادياً تماماُ يجالس الناس يصبّح عليهم يشرب معهم الشاي، وكأنه كان بالأمس معهم في ليلة عزائهم وحزنهم الأكبر، ليلة فض الاعتصام. وبالنتيجة يأتي حصاده الفني مزيجاً من غناء صالح وطالح تطغى عليه قناديل الألحان الناشزة التالفة التي وصف موسمها عمنا المزارع عبد الحميد بعبارته البليغة: السنة دا أزرت يا ابني!
وما دام بيان المبدعين السودانيين يدعو إلى المساءلة والمحاسبة على الانتهاكات والفظائع، فمن الأحرى أن يبدأ تلك المساءلة والمحاسبة بما فعلته قناديل الألحان الناشزة والأغنيات التالفة لبعض الموقِّعين عليه.
عدا عن ذلك، فإنه -بيان المبدعين السودانيين- يسهم بدوره في ترسيخ ثقافة عفا الله عما سلف: أي ثقافة عدم المساءلة والإفلات من العقاب impunity من حيث يدري ولا يدري.
إن نهج “شويّة معَ دُوْل وشويّة معَ دُوْل”هذا لا يؤدي لا في مجال الفن ولا في مجال السياسة. ولن ينصلح حال البلد ولا الفن ما لم تَسُد بيننا ثقافة المساءلة والاعتراف بالخطأ والعدول عنه وتصويبه.
غايتو الموصلى دة انا ما بعرف ليهو حاجة ، لكن سيف الجامعة دة ( ازرت ) كمان حيث انه لن ننسى انه مشى وغنى لجهاز الامن فى داره فى عز سطوة امن الجبهة والانقاذ ، عندما كان جهاز امن محمد حامد تبيدى و صلاح قوش يعتقلون ويعذبون وينتهكون البيوت والاعراض ، قام هذا المتفنن بالغناء لهم فى دارهم ليسرى عنهم رهق تعب الاعتقالات واللهاث فى اقتحام البيوت والعنف ضد الشباب والشيوخ والنساء ، غنى لهم واطربهم وطرب معهم ،ن لله دره من فنان ، وهو بعيدا عم موقفه المخزى هذا ، من ناحية فن فهو شخص اسهك لم يقدم جديدا ولا فنا يذكر به ، وقد عجبنى سقوطه المدوى عندما ترشح فى اتحاد الفنانين