أنماط طرائق التفكير السوداني (٨)

عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي
يلعب الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام أثناء النزاعات، حيث يمكن أن يكون أداةً للتوعية أو وسيلةً للتحريض. في السودان، برز الإعلام الموالي للحرب كعاملٍ مؤثرٍ في تأجيج الصراع عبر نشر الدعاية، وتعميق الانقسامات، وصياغة سرديات موجّهة حول الأحداث. نستعرض في هذه المساحة من سلسلة أنماط طرائق التفكير السوداني وجهة النظر التي يتبناها الإعلام الموالي للحرب في السودان من أجل إثراء النقاش، في مقابل، الإعلام المعارض للحرب الذي يكرّس جهوده للكشف عن أضرارها وتبعاتها الإنسانية، والسياسية، والاقتصادية. ويعتمد هذا الإعلام على مبدأ السلام والعدالة، ويسعى إلى مساءلة الحكومات والمؤسسات العسكرية عن القرارات التي تؤدي إلى العنف والدمار.
تعتمد وسائل الإعلام الموالية للحرب على لغةٍ تحريضية تهدف إلى تعبئة الجماهير ضد الطرف الآخر، من خلال تصوير الخصم كـ”عدو” يهدد الأمن والاستقرار، والترويج لفكرة “الحرب العادلة”، وإضفاء الشرعية على استخدام القوة، بالإضافة إلى استخدام خطاب عاطفي قائم على القومية، أو الطائفية الدينية، أو القبلية، مع التلاعب بالمعلومات والتضليل.
تلجأ وسائل الإعلام الموالية للحرب إلى استراتيجيات متعددة للتأثير على الإدراك العام، مثل نشر الأخبار المزيفة، والترويج لمعلومات غير دقيقة أو مضللة لدعم طرف معين، بالإضافة إلى إخفاء أو التقليل من شأن الخسائر والانتهاكات التي يرتكبها الطرف المدعوم. كما تعرض الأحداث بطريقة تخدم الأجندة الحربية، مثل تصوير الانتصارات على أنها حتمية، والخسائر على أنها مؤقتة، مع شيطنة الآخر وخلق الأعداء.
لا تنفصل طرائق تفكير الإعلاميين وصنّاع الرأي العام في السودان عن مخرجات النظام التعليمي غير الفعّال، والتي لم تنجح في بناء قدرات نقدية مستقلة أو تطوير أدوات تحليلية موضوعية. هذا التعليم التقليدي المترهل، المقرون بإرث أيديولوجي متأثر بتدين سلفي شكلي وأفكار سياسية مستوردة، خلق بيئة فكرية هشّة تعزز من الخطابات الأحادية والنظرة الضيقة للعالم.
تسهم الإذاعات المحلية والولائية والخاصة، إضافةً إلى القنوات التلفزيونية القومية، في ترسيخ هذا النمط السلبي من التفكير. إذ تحولت العديد من هذه المنصات إلى أدوات في يد حفنة من المطبلين والأبواق الإعلامية الكاذبة، ممن يدّعون أنهم خبراء استراتيجيون، بينما هم في الحقيقة يعيدون إنتاج نفس الخطابات المضللة والمتماهية مع مصالح الأطراف المتنازعة. هذه الفئة تكرّس طرائق تفكير ملتوية، تُسهم في إعادة تدوير الأفكار العدوانية وتبرير سياسات الحرب والقمع.
تساهم هذه الوسائل في بناء صورة نمطية للخصم، تتسم باتهامه بالخيانة أو العمالة لقوى خارجية، والتركيز على جرائمه الحقيقية أو المزعومة، مع تجاهل جرائم الطرف المدعوم. كما يتم التلاعب بالصور والفيديوهات لإثارة الغضب والكراهية، والترويج لدور القادة العسكريين عبر تقديمهم كأبطال منقذين للوطن.
إضافة إلى ذلك، يتم تمجيد قرارات القادة العسكريين، والتقليل من أهمية أي معارضة لهم، وتصوير الانتصارات العسكرية على أنها إنجازات عظيمة، حتى لو كانت مكلفة إنسانيًا واقتصاديًا. وفي الوقت نفسه، يتم إضعاف الأصوات المناهضة للحرب، حيث يواجه الإعلام المناهض للحرب تهميشًا وقمعًا في ظل سيطرة الإعلام الحربي، وشيطنة دعاة السلام ووصفهم بأنهم “ضعفاء” أو “خونة”. كما تُفرض رقابة صارمة على الأصوات الداعية للحوار والمصالحة، ويتم الترويج لفكرة أن السلام مستحيل، وأن الحرب هي الحل الوحيد.
لا يقتصر الإعلام الموالي للحرب في السودان على نقل الأخبار، بل يعد أداة فعالة في توجيه الصراع وتعزيزه. فمن خلال الدعاية، والتضليل، وشيطنة الآخر، يسهم هذا النوع من الإعلام في تعقيد الأزمة وإطالة أمد العنف. لذلك، يصبح تعزيز الإعلام المستقل والمسؤول ضرورة لمواجهة هذه التأثيرات السلبية وتحقيق سلام مستدام في السودان.
في المقابل، يعمل الإعلام المعارض للحرب على نقل معاناة المدنيين والضحايا، حيث يسعى إلى تسليط الضوء على الأثر الإنساني المدمر للنزاعات من خلال نشر قصص النازحين واللاجئين والضحايا المدنيين. كما يوثّق الانتهاكات الحقوقية والجرائم التي تحدث خلال الحروب، مما يساهم في تعزيز الوعي العالمي بأهمية إنهاء النزاعات المسلحة والترويج للحلول السلمية والدبلوماسية.
عوضًا عن دعم الحلول العسكرية، يركز الإعلام المعارض للحرب على إبراز البدائل السلمية، مثل الحوار، والمفاوضات، والمبادرات الدبلوماسية. كما يدعم جهود منظمات السلام الدولية التي تعمل على إنهاء النزاعات بطرق غير عنيفة، ويفضح المصالح الاقتصادية والسياسية للحروب.
كثيرًا ما تُخاض الحروب لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية خفية، مثل الاستحواذ على الموارد الطبيعية أو تعزيز النفوذ الجيوسياسي. يكشف الإعلام المعارض للحرب عن هذه المصالح، ويسعى إلى تسليط الضوء على الجهات المستفيدة من استمرار النزاعات، والعمل على مراقبة الحكومات والأنظمة العسكرية.
يلعب الإعلام دورًا رقابيًا من خلال مساءلة الحكومات عن قراراتها العسكرية، والضغط عليها للكشف عن مبررات الدخول في الحروب، ومدى قانونية تلك القرارات وفقًا للمواثيق الدولية.
يعتمد الإعلام المعارض للحرب على مجموعة من المبادئ الفكرية والأخلاقية، ويرى أن قيمة الإنسان وحياته فوق أي اعتبارات سياسية أو عسكرية. كما يحاول تقديم تغطية موضوعية غير متأثرة بدعاية الأطراف المتحاربة، ويواجه الروايات الرسمية بالتدقيق والبحث عن الحقائق بدلًا من قبولها دون مساءلة. ويؤمن بأن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل هو نظام متكامل قائم على العدالة والتعاون الدولي.
في هذه السلسلة نحرص على مناقشة الأفكار التي تساهم في تقريب وجهات النظر في القضية المطروحة. وفي هذه المساحة فاننا نقدم الدعوة للتداول بوضوح حول أهمية الإعلام المسؤول، وكيفية خلق نمط تفكير جديد فعال في ما يخص الإعلام لأهميته البالغة في توجيه الرأي العام حتى تتقارب فيه أفكار بناء لإحداث التغيير المنشود.