أخبار متنوعة

شنقيط الموريتانية: الدرّة المكنونة وسابع مدن الإسلام المقدسة

 

عبد الله مولود

لعبت المدن الصحراوية وخاصة مدينة شنقيط التاريخية الموريتانية، دورا محوريا في التجارة والاقتصاد والثقافة ومختلف مجالات العمران، ضمن التاريخ الحضاري لغرب الصحراء، بل والصحراء الأفريقية الوسطى.
وتبدو شنقيط في النهار وهي تستظل بعراقتها من شمس الصحراء المحرقة لكنها في لياليها تتوهج تحت جمال الصمت الأسطوري في الصحراء الذي لا يقطعه سوى تردد الآذان من صومعة المسجد العتيق الصامدة، أو تلك الأصداء الخافتة التي تحملها من حين لآخر، نسمات المساء الباردة، وتلاوة آيات من القرآن العظيم، أو أدعية وابتهالات في عتمة السحر، أو قرع طبل ربما يأتي من إحدى حلقات المديح النبوي، التي تكثر في الواحات، خاصة في الأماسي، بعد أن يستريح عمال واحات النخيل من مشاغلهم اليومية، فيتنادون إلى إنعاش سهرات المديح التي تستقطب على حد سواء كلا من السكان المحليين والزوار.
بين هذه الربوع، تعزف الرياح ألحانا شجية على أديم أرض قاحلة، مخضبة بلون معدني غامق، وقد أحرقتها أشعة الشمس عبر أزمنة تقدر بملايين السنين، مُضفٍية عليها مزيدا من الشحوب والكآبة، لكن، وحيثما يبدو للرائي بأن كل ما في المكان موات، تنبثق الحياة في لحظة ما، من رحم الصحراء، وتتراءى لك زهرة المدائن شنقيط.

ذاكرة الجمع

تتصدر مدينة شنقيط وتعني كلمة شنقيط «عيون الخيل» المدن التراثية الموريتانية قدما وأصالة وجمعا للعلم والعلماء؛ وقد أسست شنقيط سنة 1226 للهجرة لتظل على مدى قرون متوالية مركزا تجاريا هاما ونقطة تلاق للقوافل التي تحمل الملح والذهب والحبوب والتمور ومختلف البضائع السودانية والشمال الأفريقية، كما شكلت منارة علم ذات إشعاع كبير.
وقد أنجبت شنقيط فقهاء وشعراء وأدباء ذاع صيتهم وامتد تأثيرهم إلى تخوم السودان ومختلف أرجاء المغرب والمشرق العربيين.

مكة الصحراء

ظلت مدينة شنقيط المؤسسة في القرن الثالث عشر، إحدى أبرز المراكز الفكرية والروحية في الصحراء الكبرى؛ وقد ورثت مكانتها عن مدينة أقدم تأسست في عام 777م وعُرفت آنذاك بـ «آبير»، أي البئر الصغيرة.
وسرعان ما تحولت المدينة إلى مركز روحي وعلمي جعل منها «مكة الموريتانية»، حيث احتضنت 12 مسجدًا يمكن لكل منها أن يستوعب ألف مصلٍ.
ومع أن شنقيط تتراءى لزائرها اليوم أعرشةً وأطلالًا، فإنها، رغم ذلك، ذاكرة حية وسفر عظيم من التاريخ لما تحويه من مخطوطات قديمة مرصوصة في مكتبات عائلية غنية، يتلاعب حول رفوفها زحف الرمال وتحديات الزمن.
وتحتوي هذه المخطوطات على كنوز معرفية نادرة تشمل مواضيع عدة بينها الفلك، والطب، فضلاً عن نصوص في الرياضيات والأدب والفقه.

الذخائر والنفائس

تزخر مدينة شنقيط بالمكتبات التي تضم ذخائر الكتب ونفائس المخطوطات ونوادر الوثائق، وكان ذلك نتاجا طبيعيا لكون المدينة ظلت لقرون عدة جسر الثقافة بين المشرق والمغرب العربيين وصلة وصل حضارية مع أفريقيا الغربية.
وتغطي المخطوطات بتلك المكتبات فترة زمنية تمتد من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر، وتهتم بجميع العلوم والمعارف مثل علوم القرآن والحديث والسيرة النبوية الشريفة والفقه خاصة الفقه المالكي والعربية وعلومها وآدابها وعلم الفلك والرياضيات والهندسة والتاريخ والطب والجغرافيا وغيرها.
وقد ساهمت هذه المكتبات خلال القرون الماضية في إثراء المشهد الثقافي الموريتاني وعلى امتداد السوح المشرقية والمغربية، وأغرت الباحثين بالتوجه إليها من كل مكان، بحثا عن المعارف.
ومن أبرز المكتبات المشكِّلة لخريطة المكتبات الشنقيطية، مكتبات: أهل حبت، وأهل أحمد محمود، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامَّنِّي، وأهل عبد الحميد، وأهل الوداعة، وأهل السبتي، وأهل الخرشي، وأهل بلعمش.
وتحتاج هذه المكتبات للكثير من الاهتمام والرعاية من أجل مواجهة الصعاب والتحديات الكثيرة التي تحاصرها.
وكانت «اليونيسكو» قد وجهت قبل سنوات نداء استغاثة من أجل الاهتمام بالتراث الإنساني المهدد في مدينة شنقيط التاريخية وفي نظيراتها الوطنية الثلاث: وادان، وتيشيت، وولاته، بهدف المسارعة بدمجها في المدن التاريخية الواجبة الحماية.
وتتخذ مكتبة أهل حبت، من بناية عتيقة إلى جانب السوق القديم بحي طِيرْزَه بمدينة شنقيط، تتخذ مقرا لها، وتضم في رفوفها ودواليبها حوالي ألفي كتاب، من بينها 1400 مخطوط، وتصنف هذه المخطوطات حسب المواضيع إلى الفنون التالية: علوم القرآن، الحديث الشريف، التوحيد، السيرة النبوية، التصوف، الفقه، اللغة وآدابها، الحساب، الطب، علم الفلك، الحكمة والتاريخ.
وينضاف إلى ذلك الكثير من الوثائق المهمة، ومنها ما يتعلق بحياة أهل شنقيط في العصور السابقة.
ومن ضمن المخطوطات النادرة المحفوظة بمكتبة أهل حبت: مصحفان شريفان أحدهما بخط الفنان الفارسي محمد أبو القاسم التبريزي، والآخر مغلف بطبقتين من الجلد ومصدَّر بزخارف مذهَّبة، وكذلك كتاب صحيح الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري، وهو مخطوط يعود تاريخ نسخه إلى سنة 480 للهجرة، كما هو مبين على الصفحة الأخيرة منه، وكتاب إمتاع الأمة بالأحاديث التي اتفق على تخريجها الستة الأئمة، وكتاب الجامع الصحيح لأسانيد المستخرج من أربعة مسانيد، وكتاب التبصرة للخمي.
كما توجد بهذه المكتبة خطوط كوكبة من كبار علماء المسلمين، مثل السيوطي، والونشريسي، والزرقاني، والشبرخيتي، بالإضافة إلى سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم، وسيدي محمد ولد حبت، والتجاني ولد باب ولد أحمد بيب، والشيخ ماء العينين ولد الشيخ محمد فاضل، ومحمد يحيى الولاتي.
ويؤكد عبد الله ولد غلام ولد حبت، القائم على مكتبة أهل حبت، أن المؤسس الأول لهذه المكتبة هو الشيخ سيدي محمد ولد حبت، المتوفى 1288 للهجرة، وقد اعتمد طرقا ثلاثا لجمع شتات هذه المخطوطات، وهي الحصول على الموجود في شنقيط من المخطوطات إما بالبيع أو النسخ، والطريق الثالثة اقتناء المخطوطات في رحلة العودة من الحج التي كانت تمر بالسودان ومصر والمغرب الكبير، فضلا عن بلاد الحجاز، أما ثالثة الطرق فهي سفر له إلى المغرب الكبير، تمكن خلاله من الظفر بالكثير من المخطوطات ذات المصدر الأندلسي.
ويقول عبد الله أن مؤسس المكتبة استطاع جمع أكثر من ثلاثة آلاف مخطوط، لكن هذا العدد تناقص بفعل عاديات الزمن، وكذلك السرقة والعرِيَّةِ.
ويرى الأستاذ سيف الإسلام ولد أحمد محمود، القائم على مكتبة أهل أحمد محمود، التي تتخذ من دار محاذية لجامع شنقيط العتيق مكانا لها، أن مكتبته كانت تضم في رفوفها أكثر من سبعمئة مخطوط، غير أن ذلك العدد تناقص بسبب عوامل الطبيعة من رطوبة وحرارة ومطر، بالإضافة إلى سُرَّاق الكتب والآثار ولصوص المكتبات.
وطالب الأستاذ سيف الإسلام، بضرورة رعاية هذه المكتبات وتوفير وسائل الحفظ لها وتصوير نسخ منها بالطرق الحديثة، وحمايتها باعتبارها تراثا وطنيا ينبغي حفظه، مشيرا إلى ما تتعرض له المخطوطات من مخاطر بفعل الطبيعة.
ويقول إن مكتبته تضم مخطوطات نادرة، من أبرزها مصحف كتب على رَقِّ الغزال، وشرح المَكُّودي على ألفية ابن مالك في النحو والصرف، وجزء من كتاب الشمائل للإمام الترمذي، وكتاب في الوفيات لابن خِلِّكَانْ، وكتاب في المواقيت مطبوع على الآلة الحجرية في مصر.

مسجد شنقيط

يُعتبر مسجد شنقيط منارةً تاريخيةً ودينيةً هامةً، حيث يُمثل يعد هذا الجامع العريق، رمزًا للإسلام والعلم والمعرفة في قلب الصحراء الكبرى.
وقد بُني المسجد عام 1240 على يد العالم الموريتاني الشهير عبد الله بن يحيى الفلالي، ليُصبح مركزًا هامًا للتعليم الإسلامي على مر العصور.
ويتميز مسجد شنقيط بطرازه المعماري الفريد، حيث يجمع بين الطراز المعماري السوداني الساحلي مع جمعه للعديد من العناصر المعمارية المميزة الأخرى. ويُعدّ من أقدم المباني الحجرية في موريتانيا، حيث تمّ بناؤه باستخدام الحجارة المحلية والطين.
ويحوي مسجد شنقيط مكتبةً غنيةً تضمّ أكثر من 8.000 مخطوطة نادرة في مختلف مجالات العلوم والمعرفة.
وقد لعب المسجد دورًا هامًا في نشر العلم والمعرفة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، حيث تخرج منه العديد من العلماء والفقهاء الذين ساهموا في إثراء الحضارة الإسلامية.
وظل مسجد شنقيط، على مر التاريخ، مركزًا علميًا هامًا، حيث ضمّ العديد من المدارس الدينية التي تخرج منها علماء كبار في مختلف المجالات.
ويُعدّ من أهم الوجهات السياحية في موريتانيا، حيث يجذب الزوار من جميع أنحاء العالم للاطلاع على جماله المعماري وتاريخه العريق.
ويختلف المؤرخون على التاريخ الدقيق لإنشاء مسجد شنقيط، فيما تجمع روايات كثيرة على بنائه مع تأسيس مدينة شنقيط نفسها نحو عام 660 للهجرة.
وللوصول إلى مسجد شنقيط، يتعين قطع مسافة 540 كيلومترًا من العاصمة نواكشوط باتجاه ولاية آدرار بالشمال الشرقي، ويسلك المسافرون طرقًا شديدة الوعورة.
وتحرص الوفود والشخصيات العربية والأجنبية التي تزور موريتانيا على زيارة المسجد تقديرًا لدوره التاريخي، رغم مشقة السفر وطول المسافة ووعورة الطرق.
وقد صنفت المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم «اليونيسكو» جامع شنقيط تراثا بشريا عالميا، ويعد هذا الجامع الواجهة التراثية الأولى لموريتانيا بفضل بنائه وصموده في منطقة صحراوية.
ويتكون المسجد من فناء مفتوح، ويضم مصلى للرجال وآخر للنساء؛ ويتسم ببساطة التصميم، ليلائم الطبيعة الصحراوية من حوله، وسقفه مصنوع من جذوع النخيل والأشجار، فيما يعلو منبره عن الأرض بـ 3 درجات خشبية.

تراث عريق مهدد

تحوي مدينة شنقيط أرشيفا تراثيا ضخما وثمينا ولكنه هش؛ وتتضافر اليوم ضد بقاءه عدة عوامل يأتي في مقدمتها الإهمال، والتعرية والضياع والنهب، إذا لم تقف الأمة كلها من أجل صيانته وتثمينه.
وفي شنقيط، يكتشف الزوار على كل جرف، وفي كل كهف، أعمال أولئك الفنانين القدامى، الذين عاشوا في المنطقة منذ أزمنة غابرة؛ لقد خلدوا مفردات حياتهم اليومية، وأفكارهم ومشاعرهم المختلفة في سجل مرقوم، فقاموا بنقش تلك الإبداعات على الغرانيت والحجر الرملي في الكهوف والمغارات، لتبقى نتوءات بارزة، محفورة على تلافيف ذاكرة تستعصي على النسيان.
ورغم ما يحيط بها من تحديات وتهديدات، تقف شنقيط مزهوة بأمجادها، لتظل خالدة في عيون وقلوب الموريتانيين والعالم.
وتواجه شنقيط اليوم تحديات جمة: فالرمال تزحف على المدينة القديمة، فيما يتسلل البلى إلى المنازل الطينية العريقة، بينها تواجه المخطوطات التاريخية خطر التلف بسبب الرطوبة والغبار، رغم جهود الترميم والحفظ المبذولة والتي تحتاج إلى دعم أكبر لحفظ هذه الكنوز النادرة.
وإضافة لجهود الحكومة، تسعى منظمات دولية، مثل منظمة الإيسيسكو واليونسكو، إلى دعم جهود حفظ وترميم المخطوطات الموريتانية، بجهود تشمل مشاريع عدة بينها ترميم المسجد العتيق في شنقيط، بالإضافة إلى مبادرات لتوفير المعدات اللازمة لحفظ المخطوطات، مثل أجهزة المسح الرقمي، وأجهزة تخزين البيانات.

استعادة البريق

قبل أسابيع قليلة، ومع استهلال العام الجديد، استيقظت مدينة شنقيط على فرصة لاستعادة ألقها عبر النسخة الـ13 من مهرجان المدن القديمة، الذي بات يُعرف اليوم بمهرجان مدائن التراث.
وقد نُظم المهرجان الضخم تكريما لمدينة كانت ذات يوم منارة علم وسدرة منتهى الروحانية في الصحراء، حتى لقبت بـ «سوربون الصحراء»، و«مكة الصحراء الموريتانية»، مع أنها تواجه تهديد النسيان وزحف الرمال.
ويُعد المهرجان السنوي الخاص بمدائن التراث مناسبة لإحياء التراث الثقافي والتاريخي، وجذب السياح والمستثمرين.
وخلال أيام المهرجان، تعج شوارع شنقيط وسوحها بعروض المخطوطات وبالمصنوعات الحرفية التقليدية، إلى جانب المحاضرات العلمية وسباقات الخيول والجمال والحفلات الموسيقية.
ومع اكتمال تشييد الطريق الرابط بين أطار عاصمة ولاية آدرار شمال موريتانيا ومدينة شنقيط التاريخية والممول جزئيًا من قبل البنك الإسلامي للتنمية، أصبح الوصول إلى المدينة أكثر سهولة، وهو ما فتح الباب أمام تعزيز السياحة، كما أنه ربط المدينة ببقية أنحاء البلاد.
وجاءت النسخة الـ13 من مهرجان مدائن التراث لتنفض الغبار عن المدية العريقة بما أتاحته من فرص لتنفيذ المشاريع التنموية لصالح المدينة وسكانها حيث تم تخصيص أربع مليارات أوقية قديمة مساهمة من 19 قطاعا وزاريا الأمر الذي انعكس إيجاباً على الساكنة المحلية لمدينة شنقيط.
وتم خلال المهرجان كذلك إصدار وتوزيع 11 مؤلفا لعدد من القامات الوطنية والإعلامية زيادة على استدعاء عشرات الباحثين الوطنيين والدوليين لإنعاش أربعين محاضرة، إلى جانب المكونة الفنية ببرامجها وإبداعاتها وهو ما جعل من المهرجان قمة ثقافية وإعلامية منظمة بشكل بديع على أديم شنقيط الطاهر.
ووافقت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «الإيسيسكو» على تسجيل ثلاثة معالم جديدة من التراث الموريتاني، ضمن تراثها الإسلامي.
هكذا وفي قلب الصحراء الموريتانية، تظل شنقيط شاهدًا على تاريخ غني وماضٍ مجيد، لكنها تقف على حافة النسيان.
ومن خلال مهرجان مدن التراث وجهود الحفظ المتواصلة، تسعى المدينة لاستعادة جزء من ألقها القديم؛ ومع ذلك، يبقى السؤال: إلى متى يمكن لشنقيط أن تصمد أمام زحف الرمال ونسيان الأجيال؟

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..