الموت الصامت بالألغام يطارد السودانيين في مناطق الصراع
حملات إزالتها غير كافية والتوعية بأخطارها والابتعاد عنها أمر أكثر من حيوي

ملخص
عمد طرفا الحرب في السودان إلى زراعة الألغام في عدد كبير من المناطق لتأمين وجودهم فيها، وأحياناً انتقاماً بعد انسحابهم منها، وكالعادة المدنيون يدفعون الثمن.
لم يعد الموت في ظل الحروب محصوراً بالرصاص الطائش أو القذائف التي تسقط بصورة عشوائية أو القصف الجوي بالصواريخ والبراميل المتفجرة، إنما أصبح هناك موت خفي يتربص بالمواطنين ناتج من الألغام المزروعة في باطن الأرض ومخلفات الحرب غير المنفجرة والعبوات الناسفة، هذا ما يعانيه كثير من السودانيين، سواء العالقون في مناطق الصراع أو الذين عادوا إلى المدن والقرى التي استعادها الجيش السوداني من قبضة “الدعم السريع”.
فطرفا حرب السودان التي اقتربت من إكمال عامها الثاني نشطا في زراعة الألغام على نطاق واسع، بخاصة في الطرق الرئيسة التي تربط الولايات ببعضها بعضاً بهدف حماية مداخلها، وكذلك في المدن والقرى التابعة لولايات الخرطوم ودارفور وكردفان والجزيرة وسنار والنيل الأبيض، التي شهدت نزاعاً نشطاً، وحتى مدن الولايات الآمنة كمدينة شندي في ولاية نهر النيل شمال البلاد التي سجلت أول حادثة انفجار ألغام راح ضحيتها عدد من المواطنين.
في وقت تمكن فيه المركز القومي لمكافحة الألغام في السودان من إزالة 6 آلاف جسم متفجر في ولاية الخرطوم، إضافة إلى 400 في مدينة أم درمان القديمة بحسب مصادر عسكرية عقب سيطرة الجيش السوداني عليها مطلع مارس (آذار) 2024، كما بدأ بتنفيذ عمليات تفجير مخلفات الحرب، بخاصة في المنطقة الواقعة شرق مكب النفايات في جبل أبو وليدات بأم درمان، وذلك حتى الـ19 من فبراير (شباط) الجاري.
أخطار فادحة
في هذا الصدد أوضح الناشط في قطاع التنمية الاجتماعية بولاية النيل الأبيض مهدي يوسف سليمان أن “موت المواطنين في المدن والقرى السودانية لم يعد بالرصاص والدانات والمتفجرات والصواريخ والمدفعية التي يستخدمها طرفا الصراع في الحرب الحالية، وإنما هناك خطر يعد من أكثر الأسلحة القتالية فتكاً بالمدنيين، لا سيما زراعة الألغام، إلى جانب مخلفات الحرب غير المنفجرة من المقذوفات، إذ تتسبب في أخطار جسيمة، جسدية ومادية، وتكمن خطورتها في عدم رؤيتها بسبب دفنها في باطن الأرض”. وأضاف سليمان “عند انفجار الألغام فإنها تأخذ حيزاً واسعاً في الانتشار وتحدث أضراراً كبيرة تستهدف المواطن، بخاصة الأطفال الذين أصبحوا أهدافاً للموت بسبب عدم إدراكهم وجود الأجسام الغريبة أثناء اللهو، مما أدى إلى بتر أعضائهم، إضافة إلى النساء وكبار السن والمزارعين والرعاة إلى جانب مواشيهم، وسائقي المركبات، فضلاً عن أن الناشطين والمتطوعين وثقوا عبر الفيديوهات مقاطع تعكس مدى انتشار الألغام التي زرعت أثناء الحرب بين الجيش و(الدعم السريع) وجرى تداولها على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ هناك شواهد حدثت إثر انفجار الألغام، وكانت أول حادثة سجلتها مدينة شندي في ولاية نهر النيل شمال البلاد، كذلك منطقة جبل موية في سنار في الجنوب الشرقي عندما سلكت مجموعة من الشباب وهم يتنقلون بواسطة سيارة، طريقاً ترابياً، مما أدى إلى موت العشرات منهم وأيضاً حادثة في قرية الفريجاب في مدينة الحصاحيصا في ولاية الجزيرة، إذ شكلت الألغام في الولاية واقعاً مؤلماً، كما لم تسلم الشاحنات المحملة بالبضائع من خطر الألغام”. وتابع “كان للأمطار الغزيرة والفيضانات أيضاً دور كبير في الكشف عن الألغام المزروعة وجرفها إلى الأحياء السكنية، مما جعل حجم الضرر الذي لحق بالمواطنين أكبر، علاوة على أن البيئة تأثرت بانفجار الألغام في تلوث الهواء والتربة ومصادر المياه، التي يعتمد عليها سكان القرى في الشرب، إلى جانب حرق الغطاء النباتي، ومن المؤكد في المستقبل فإن هذه الانفجارات ستؤدي إلى الإصابة بالأمراض الخطرة كالسرطانات، نتيجة ما تحمله من مواد سامة”.
وأشار الناشط المجتمعي إلى أنه “من الضروري الإسراع في إزالة الألغام بتضافر الجهود لتشكيل فرق توعوية تنشر ثقافة خطر الألغام، من خلال الندوات والمحاضرات في أماكن التجمعات العامة، لا سيما في المدارس والأندية وعبر منابر المساجد وفي مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن إزالتها تعد أكثر صعوبة، فضلاً عن أن المعدات المستخدمة في الإزالة كلفتها عالية ونادرة، لذلك يجب رفع وعي المواطن إلى أنه عند رؤية جسم غريب يجب الإبلاغ”.
إلحاق الضرر
في السياق قال المتخصص العسكري في إدارة الأزمات والتفاوض في مركز البحوث الاستراتيجية في الخرطوم أمين إسماعيل مجذوب إن “زراعة الألغام في المدن تعد ذات خطورة بالغة، لا سيما أنه لا خبرة للمواطنين في التعامل معها، مما يهدد حياتهم”.
وأوضح مجذوب أن “قوات (الدعم السريع) لجأت إلى زراعة الألغام في الأحياء السكنية لإعاقة حركة الجيش ومنعه من دخول المناطق التي تسيطر عليها، إضافة إلى أن تلك القوات زرعت الألغام بعد مغادرتها الأحياء السكنية كوسيلة انتقامية من الجيش ولإلحاق الضرر بالمدنيين”. ولفت إلى أن “الألغام المدفونة في باطن الأرض لها آثار سلبية على المديين القريب والبعيد، إذ إن انفجارها يؤدي إلى بتر الأعضاء، خصوصاً وسط شريحة الأطفال، إلى جانب أنها تسهم في تدمير الثروة الحيوانية من هلاك المواشي”.
وختم المتخصص العسكري في إدارة الأزمات والتفاوض بالقول “إن وحدة مكافحة الألغام في السودان عقب سيطرة الجيش على أجزاء واسعة من البلاد تبذل جهداً لإزالة الألغام والأجسام غير متفجرة حتى يكون السكان بأمان”.
افتقار للمعينات
من ناحية ثانية رأى المتخصص الفني في مجال مكافحة الألغام معتز سليمان أن “الحرب الحالية تختلف عن أي حروب، إذ إن المعارك لم تكن في مناطق حربية أو في مناطق مفتوحة، بل دارت في مناطق مدنية ذات كثافة سكانية عالية، فضلاً عن أن طرفي النزاع استخدما جميع أنواع الألغام الموجودة في السودان”. وأضاف سليمان “هناك ثلاثة أنواع جرى تنفيذها ضمن أسلحة الحرب تتمثل في الألغام الأرضية، التي تعد من المتفجرات القوية ويمكن أن تنفجر بواسطة مركبة وعند ملامستها أو ركلها أو إذا ما وطئ أحد عليها أو تعثر بالسلك الرابط الذي يفجرها، إذ لا يمكن رؤيتها، فضلاً عن أن الألغام متنوعة، منها المضاد للأفراد، والمضاد للدبابات، والمضاد للدروع، وجميعها تتسبب في قتل المواطنين وإصابتهم بالتشوهات وترك إعاقات دائمة، أما في ما يتعلق بمخلفات الحرب القابلة للانفجار، فإن معظمها يوجد في صورة قنابل ومعدات عسكرية وانتشارها يكون عادةً في الحقول والمناطق المحيطة بالمنازل. كذلك هناك المقذوفات، التي تختلف في أحجامها، إذ إن الصغيرة الحجم، وهي ذخائر عنقودية، لا تنفجر عند ارتطامها بالأرض، بالتالي هي غير مستقرة، ويمكن أن تنفجر في أي وقت، وهنا تكمن خطورتها، إضافة إلى العبوات الناسفة التي يتم تفعيلها من طريق آلات التحكم من بعد، وفي تقديري إن جميع هذه الأسلحة تهدد حياة المواطن وتزهق الأرواح”.
ومضى المتحدث ذاته قائلاً “من المؤسف أن التوصل إلى الأماكن التي زرعت فيها الألغام ليس بالأمر السهل، فضلاً عن أن 80 في المئة من الذين قاموا بزراعتها يقتلون في الحرب، مما يصعب إزالتها، وللأسف إن معظم المعدات الخاصة بإزالة الألغام نهبت وسرقت وما يتم الآن من برامج إزالة، دعائي لا غير”.
وأشار المتخصص الفني في مجال مكافحة الألغام إلى أن “المدن والقرى، سواء في مدن العاصمة السودانية أو ولايات الجزيرة وسنار وبعض الولايات الآمنة في حال وباء يصعب التعافي منه بسبب الأوضاع الحالية، وبخاصة الآثار الناجمة عن مخلفات الحرب وتلوث البيئة”. ونوه بأن “فرق مكافحة الألغام لكي تقوم بدورها بصورة سليمة تحتاج إلى دراسات وعمل عميق بسبب زراعتها دون خرائط، إلى جانب أهمية نشر رسائل توعية للمواطنين تبين لهم الطرق الآمنة والابتعاد عن المناطق المغطاة بالأحراش والمزروعات، علاوة على الأمكنة التي بها حيوانات ميتة، إضافة إلى عدم التقاط الأجسام الغريبة بالأيدي وعدم ركلها”.
اندبندنت عربية