مقالات وآراء
السودان: تشظِّي الكيانات وانشطار الهُوية

تروي الطرفة عن ثلاثة سودانيين كونوا حزباً سياسياً في المنفى، وبعد اصدار بيانات ضد الحكومة بلهجة حادة أرسلت السلطات وفداً اتفق مع الحزب للانضمام اليها، ومنح الحزب منصباً دستورياً واحداً ومبلغ مالي عبارة عن ” فاتورة تسوية الأوضاع”، فأرسل الكيان نائب رئيسه إلى الخرطوم تمهيداً لعودة كل القيادة لأرض الوطن.
إلا أن حملة تلميع نظمتها الصحف هناك، أثارت الغيرة والقلق في نفس رئيس الحزب فاتصل بالسلطات للترتيب لعودته الميمونة، وتنظيم استقبال جماهيري له، لكن نائبه أصدر بياناً أعلنه فيه فصل الرئيس والأمين العام لينفرد وحده بالمنصب وبالمال.
تعكس هذه الطرفة صورةً من صور انشفاقات القوى السياسية، وافتقارها للمؤسسية، ودور الأجهزة الأمنية في ذلك؛ إلا أنه ليس من السهولة ابتسار ظاهرة انشقاقات القوى السياسية السودانية في الاختراقات وضعف القيادات أخلاقياً وتنظبمياً، فالظاهرة قديمة ومتجذرة في تربة الحياة العامة كلها لا الحياة السياسية وحدها، ويظل التشظي حالةً مرتبطةً بطرائق تفكير عقلنا الجمعي، وبنيته، وانتاجه الفكري والسياسي.
وليس من الصواب، ابعاد السياقات الزمانية والمكانية والاجتماعية التي نشأت فيها هذه القوى السياسية والمدنية، ومارست خلالها أنشطتها، فقد نشأت داخل بيئة تسيطر عليها انتماءات عشائرية ضيقة، وتبعية طائفية قابضة، و مجتمع أبوي تقليدي، يقف في طرف نقيض من الحداثة.
وما يزيد الأمر تعقيداً وسوءً؛ هو سيطرة النظم الشمولية لمدة ٥٦ سنةً على الفضاء الوطني، رسخت خلالها لعسكرة الحياة السياسية، في وقت عرف فيه السودان الحكم المدني مدة ١٣ عاماً فق، و لم تخلو من الاضطراب.
سعت النظم الشمولية خلال حقبها الظلامية المتطاولة إلى تجريف الحياة المدنية، وسد المنافذ أمام العمل السلمي، واستخدمت في ذلك وسائل الترهيب والترغيب، مثلما أشرنا في الطرفة في بداية المقال، واجتهدت لتخريب المناخ السياسي عن طريق دفع الرشاوي، وشراء ذمم بعض القيادات، واختراق القوى السياسية للسيطرة عليها ؛ ابتزازاً، أو اغراءً في واقع افقار اقتصادي واجتماعي وتحديات صعبة تواجه الفاعلين السياسيين.
وتفجرت الخلافات في غالبية القوى السياسية قبل نيل السودان استقلاله، فلم تبدأ الانقسامات وسط الكتل المنظمة بانقسام تنسيقية القوى المدنية الديموقراطية ” تقدم”، ومن العسف والسطحية النظر إلى انشقاق تقدم كحادثة “معزولة” لا علاقة لها بما قبلها، واغفال تناولها كحلقة واحدة في سلسلة طويلة من رحلة التشظي السياسي السوداني والمجتمعي.
بدأت حالة التشظي هذه مع تأسيس الدولة المهدية عندما تسرّب فيروس الصراعات داخل شرايين الدولة الوليدة بين ما عرف ” أولاد الغرب وأولاد النيل أو الأشراف، وكان أساس الصراع عرقياً وجهوياً.
بالعودة إلى تاريخ السودان الحديث نجد أن الاستعمار الثنائي ساهم عن عمد في خلق تيارات سودانية منقسمة فيما بينها، وفي ولائها بين مصر وبريطانيا، بدءً بجمعية الاتحاد السوداني التي تأسست عام ١٩٢٠ ، وكان أهم أهدافها الكفاح ضد البريطانيين، والعمل على تحقيق الوحدة مع مصر.
وكتب الدكتور محمد سعيد القدال، في كتابه تاريخ السودان الحديث أنَّ عبيد حاج الأمين، كان ” أكثر جرأة في نقده للإدارة البريطانية، وفي الدعوة للتلاحم مع مصر، فنشر في الأهرام مقالاً باسمه في نوفمبر 1922 قال فيه ” إن الحركة الوطنية السودانية تدعم الأمة المصرية وتعارض تقسيم مصر والسودان على أي وجهِ من الوجوه” ص 423،
واستدل القدال، بما نشره دكتور خالد الكد، حول تشكٌّل تيار يميل إلى مصر داخل فئتين ؛ أولهما فئة رفعت شعار الوحدة مع مصر لأنه يعبر عن انتمائها العروبي، أما الفئة الثانية فهي التي شرائح اجتماعية تحررت من سلاسل العبودية، ووجدت في القاهرة ملاذاً للهروب من العنصرية، واعتبرت أن دعوة ” وحدة وادي النيل ” تمثل خلاصاً لها من الوضع الهامشي المأزوم.
وفي المقابل لم تقف الإدارة البريطانية مكتوفة الأيدي فسارعت نحو القيادات التقليدية والدينية، وأجزلت لها العطاء، وأغرقتها بالإغراءات بهدف استقطابها إلى صفها، وتحشيدها للوقوف ضد خيار وحدة وادي النيل، “، ونتج عن تلك السياسات كسب ود القيادات التقليدية التي دفعت بعريضة إلى الحاكم العام اعلنت فيها تأييدها الكامل والقاطع للنظام الحاكم في السودان، نافين صلتهم بالحركة التي تجري في مصر. وانبرى حسين شريف، في صحيفة ” الحضارة” لدحض وحدة وادي النيل، فكتب أربع مقالات بعنوان ” السودان ومصر والمسألة السودانية” ص ٤٢٦، وانحاز شريف، إلى البريطانيين باعتبار أن السودانيين لا يستطيعون حكم أنفسهم؛ والأفضل لهم أن يكونوا تحت الوصاية البريطانية، بدلاً عن أن يحكمهم المصريون، متعللاً بأن مصر لا تملك الخبرات والوسائل كي تحكم الآخرين.
لقد غرست المواقف من مصر وبريطانيا بذرة الخلافات داخل جمعية الاتحاد، وأعلن عبيد حاج الأمين، في عام ١٩٢٣ الثورة، ونادى بتغيير أساليب العمل السرية، ووضع الجمعية على حافة المواجهة مع البريطانيين.
انقسمت جمعية الاتحاد السوداني في عام ١٩٢٤، وتكونت فوق حطامها جمعية اللواء الأبيض/ بقيادة عبيد حاج الأمين، والضابط علي عبد اللطيف، وسارت في ذات التيار الموالي لمصر، وهو ما عرَّض الجمعية إلى مدفعية الزعامات التقليدية، وتهافت الزعماء نحو اظهار الولاء لبريطانيا، رفعوا عريضة أسموا الموقعين عليها ” كرام القوم”.
منذ تلك الفترة انطبعت القوى السياسية بختم التشظي، حيث لم تنج من هذا الوباء حتى الأوساط الأدبية والثقافية؛ مستصحباً معه صراعات الهوية، مثلما حدث في جمعية أبوروف التي أسسها خريجون من كلية غردون، منهم حسين وحسن عثمان الكد، حماد توفيق، علي العتباني، وإبراهيم أنيس، ثم أعقبتها بعد سنوات جمعية الهاشماب كمنافس لها وشارك في تأسيسها يوسف مصطفى التني، وعبد الله عشري صديق، وعبرت جمعية الهاشماب عن تيار وعي قومي.
وشهد نادي الخريجين كذلك صراعات حادة بين الفئات المتعلمة والمثقفة، و انتقلت تلك الصراعات إلى مؤتمر الخريجين؛ الذي انقسم إلى مجموعتين؛ انضمت احداها، وعلى رأسها الأزهري، ويحي الفضلي، إلى الحركة الاتحادية، وآثرت مجموعة أخرى ضمت محمد أحمد المحجوب، وآخرين الانتماء إلى حزب الأمة.
لقد فضحت صراعات الحركة الوطنية ما كان يستبطنه عقل القيادات التقليدية من استعلاء ثقافي عبرت عنه صحيفة ” الحضارة ” التي نشرت مقالاً جاء فيه” إنها أمة وضيعة التي يقودها أمثال علي عبد اللطيف، ومن هو علي عبد اللطيف؟ وإلى أي قبيلة ينتمي؟”. وذهب البعض إلى وصف تلك الجماعة بالمنبتة!.
ثمُّ سعت النُّخب الحاكمة في السودان لحسم سؤال الهُويّة وفق تصوراتها هي، وأصرت على أن تجيب على هذا السؤال المصيري بالقوة، بالانحياز للهوية العربية، واقصاء مُكوِّنات ثقافية أساسية من مُكوِّنات الشعوب السودانية.
إنَّ دراسة الظاهرة يقتضي البحث في احداثيات العقل السوداني ومنصات انطلاقه؛ التي تتمثل في الهوية؛ وتفرعاتها الثقافية واللَّغوية والاثنية، والحضارية، والدين ومناهج التعليم، وهذا ما يعرف عند المفكر لالند، بأنه العقل ((المكوَّن))، أو السائد، وباختصار هو منظومة القيم والأفكار والتصورات التي شكلت نمط العقل.
إذا ما تعمقنا في الحالة السودانية نجد أن منصة الانطلاق للتفكير مبنية على ثنائية ( عرب/ أفارقة، مسلمون/ غير مسلمين، لذلك عندما نتناول أي ظاهرة مرتبطة بجوهر التفكير والعقل سنجد أن أزمة منصات الانطلاق بقدرما هي محفز، إلا أنها شكّلت أزمةً في طرائق عمل العقل ( المكوِّن) أي المنتِج، وتتمثل في وجود انشطار الهوية وثنائيتها، توجد هوية كبرى متشظية، وهويات صغرى متصاعة فيما بينها من جهة، وضد الهوية الأكبر من جهة أخرى..
ارتبطت ثنائية الهوية ” بالصراعات الكبيرة، وتمظهرت في حروب الشمال والجنوب، ثم زرقة وعرب في دارفور، و ما بين هامش ومركز؛ بين الأطراف والسلطة المركزية في الخرطوم، كما لم تسلم من داء الانقسامات كثير من القوى السياسية بما فيها التي ترفع شعارات تقدمية مثل اليسار، الذي ظلت قياداته حكراً على جهات عرقية وجهوية محددة، وكذلك الحركات الدينية التي تقدم العروبة على الإسلام في غالب مواقفها.
نشير هنا إلى صراعات داخل ” المؤتمر الوطني الحاكم” في منتصف التسعينات عندما أضطرت لجنة الانتخابات الى تزوير النتيجة بابعاد المرشح الفائز الشفيع أحمد محمد، لأنه منحدر من دارفور، وتفضيل غازي صلاح الدين، عليه؛ واختياره أميناً للحزب الحاكم، وهو حزب الجماعة التي بسببها قال القيادي الإسلامي داؤود يحي بولاد، أنه وجد لديهم أن الدم أقوى من الدين.
ولم تفارق ” الثنائية ” حتى القوى السياسية المهمشة التي وقعت في فخ التناقضات الكبيرة والصغيرة، ففيما تشكو تلك القوى من تهميش المركز لها لأسباب اثنية أو جهوية، فقد شربت هي من ذات الكأس، وتحولت التناقض مع المركز إلى تناقض داخلي؛ مثلما حدث للجيش الشعبي لتحرير السودان وصراعات ” الدينكا والنوير” أو ” الدينكا والشلك” في تسيعينات القرن الماضي وما سببته من حرب ضروس بين الدكتور جون قرنق من جهة، ورياك مشار ولام أكول من جهات أخر.
وكذلك تناسلت الحركات المسلحة في دارفور فيما بينها وشهدنا التنافس ما بين الزغاوة ” مني أركو مناوي” والفور ” عبد الواحد محمد نور، وحركة العدل والمساواة/ لتبلغ عدد الحركات المسلحة أكثر من ٤٠ حركة تحمل ذات الاسم مع تقديم وتأخير للكمات أو إضافة صفة أو اسم القائد ليكون جناحاً مناوئاً.
بالطبع ثمة عوامل أخرى ساهمت في حالة التشظي الملازمة للقوى السياسية منذ بداية تشكل الدولة الحديثة، مثل الصراع على النفوذ والسلطة، ويمكن الإشارة إلى انقسامات حزب الأمة في عام ١٩٦٦ بين جناحي الهادي المهدي وابن أخيه الصادق” ليتقسم الحزب لاحقاً إلى أكثر من خمسة أحزاب تحمل ذات الاسم، وكذلك شهدت الحركة الاتحادية انقسامات حادة ومتعددة منذ عام ١٩٥٦، والحزب الشيوعي السوداني في عام ١٩٧٠، والحركة الإسلامية التي بدأت أولى مراحل انقساماتها في عام ١٩٦٩ ما بين جناح الأخوان المسلمون وجناح الترابي، وحدثت أكبر الانقسامات التي هزت الحركة الإسلامية في عام ١٩٩٩؛ وما اصطلح بتسميتها بالمفاصلة داخل المؤتمر الوطني الحاكم بين الفريق عمر البشير وعراب الحركة الدكتور حسن الترابي.
بالعودة إلى التحالفات السياسية مثل تنسيقية ” تقدم” لا نجد غرابة حول ما حدث من فك ارتباط أو طلاق سياسي بين مكونات التحالف العريض في سياق واقع سوداني متمزق، وبالضرورة استنتاجاً نجد أنَّ معرفة الكل تتطلب معرفة خصائص الجزء، وبما أنَّ خصائص الوحدات الصغيرة المكونة للحلف تحمل تناقضات في داخلها، فبالضرورة فإن المكون الأكبر ” الحلف” يحمل داخل بنيته ذات التناقضات.
يجب الإشارة كذلك إلى طبيعة قوى ” الجبهة الثورية” المناطقية والعسكرية، فهي قوى نشأت عسكرياً وهذا ما يضعف عملية الممارسة الديموقراطية في داخلها، أو السماح بذلك مع القوى المتحالفة عند الاختلافات، وكان نتيجة ذلك أن ارتمت بعض قوى الكفاح المسلح في أحضان المنظومة القاهرة لهاـ وتحالفت مع الاستبداد، وتماهت مع المستبد ووسائله وأفكاره وقيمه وممارساته، بدلاً من اختيار مسار التحرر والانعتاق.
لم تنزل أحزابنا السياسية علينا من السماء، فهي نتاج لتفكيرنا الجمعي، ويعاني معظمها من وجود خلل بنيوي وهيكلي يتجلى في غياب الرؤية الواضحة، ضعف المؤسسية، والهشاشة التنظيمية، و غياب الممارسة الديمقراطية داخلها، وتصلب شرايينها التنظيمية، واعتمادها على قيادة فوقية في أجواء تنتشر فيها أمراض الشللية، و شح النفس، وغلبة الطموحات الفردية التي تفشل كل اللوائح الأطر التنظيمية في كبج جماحها، و تحصينها من الانزلاق في وحل اغراءات القوى المعادية.
تزداد هذه العيوب كلما اتسمت خيوط القيم الديموقراطية بالوهن، واكتفت قيادات الأحزاب بما نسميه ((الديموقراطية الإجرائية)) ونقصد بها ” الاحتفاء بالجانب الشكلي من الديموقراطية، ويتمثل في الاجراءات، اللوائح، دون التركيز على الديموقراطية كثقافة أو التطبع بسلوكها خلال ممارسة الفعل السياسي، أو عند إدارة الاختلافات الداخلية والخارجية.
إلا أن حملة تلميع نظمتها الصحف هناك، أثارت الغيرة والقلق في نفس رئيس الحزب فاتصل بالسلطات للترتيب لعودته الميمونة، وتنظيم استقبال جماهيري له، لكن نائبه أصدر بياناً أعلنه فيه فصل الرئيس والأمين العام لينفرد وحده بالمنصب وبالمال.
تعكس هذه الطرفة صورةً من صور انشفاقات القوى السياسية، وافتقارها للمؤسسية، ودور الأجهزة الأمنية في ذلك؛ إلا أنه ليس من السهولة ابتسار ظاهرة انشقاقات القوى السياسية السودانية في الاختراقات وضعف القيادات أخلاقياً وتنظبمياً، فالظاهرة قديمة ومتجذرة في تربة الحياة العامة كلها لا الحياة السياسية وحدها، ويظل التشظي حالةً مرتبطةً بطرائق تفكير عقلنا الجمعي، وبنيته، وانتاجه الفكري والسياسي.
وليس من الصواب، ابعاد السياقات الزمانية والمكانية والاجتماعية التي نشأت فيها هذه القوى السياسية والمدنية، ومارست خلالها أنشطتها، فقد نشأت داخل بيئة تسيطر عليها انتماءات عشائرية ضيقة، وتبعية طائفية قابضة، و مجتمع أبوي تقليدي، يقف في طرف نقيض من الحداثة.
وما يزيد الأمر تعقيداً وسوءً؛ هو سيطرة النظم الشمولية لمدة ٥٦ سنةً على الفضاء الوطني، رسخت خلالها لعسكرة الحياة السياسية، في وقت عرف فيه السودان الحكم المدني مدة ١٣ عاماً فق، و لم تخلو من الاضطراب.
سعت النظم الشمولية خلال حقبها الظلامية المتطاولة إلى تجريف الحياة المدنية، وسد المنافذ أمام العمل السلمي، واستخدمت في ذلك وسائل الترهيب والترغيب، مثلما أشرنا في الطرفة في بداية المقال، واجتهدت لتخريب المناخ السياسي عن طريق دفع الرشاوي، وشراء ذمم بعض القيادات، واختراق القوى السياسية للسيطرة عليها ؛ ابتزازاً، أو اغراءً في واقع افقار اقتصادي واجتماعي وتحديات صعبة تواجه الفاعلين السياسيين.
وتفجرت الخلافات في غالبية القوى السياسية قبل نيل السودان استقلاله، فلم تبدأ الانقسامات وسط الكتل المنظمة بانقسام تنسيقية القوى المدنية الديموقراطية ” تقدم”، ومن العسف والسطحية النظر إلى انشقاق تقدم كحادثة “معزولة” لا علاقة لها بما قبلها، واغفال تناولها كحلقة واحدة في سلسلة طويلة من رحلة التشظي السياسي السوداني والمجتمعي.
بدأت حالة التشظي هذه مع تأسيس الدولة المهدية عندما تسرّب فيروس الصراعات داخل شرايين الدولة الوليدة بين ما عرف ” أولاد الغرب وأولاد النيل أو الأشراف، وكان أساس الصراع عرقياً وجهوياً.
بالعودة إلى تاريخ السودان الحديث نجد أن الاستعمار الثنائي ساهم عن عمد في خلق تيارات سودانية منقسمة فيما بينها، وفي ولائها بين مصر وبريطانيا، بدءً بجمعية الاتحاد السوداني التي تأسست عام ١٩٢٠ ، وكان أهم أهدافها الكفاح ضد البريطانيين، والعمل على تحقيق الوحدة مع مصر.
وكتب الدكتور محمد سعيد القدال، في كتابه تاريخ السودان الحديث أنَّ عبيد حاج الأمين، كان ” أكثر جرأة في نقده للإدارة البريطانية، وفي الدعوة للتلاحم مع مصر، فنشر في الأهرام مقالاً باسمه في نوفمبر 1922 قال فيه ” إن الحركة الوطنية السودانية تدعم الأمة المصرية وتعارض تقسيم مصر والسودان على أي وجهِ من الوجوه” ص 423،
واستدل القدال، بما نشره دكتور خالد الكد، حول تشكٌّل تيار يميل إلى مصر داخل فئتين ؛ أولهما فئة رفعت شعار الوحدة مع مصر لأنه يعبر عن انتمائها العروبي، أما الفئة الثانية فهي التي شرائح اجتماعية تحررت من سلاسل العبودية، ووجدت في القاهرة ملاذاً للهروب من العنصرية، واعتبرت أن دعوة ” وحدة وادي النيل ” تمثل خلاصاً لها من الوضع الهامشي المأزوم.
وفي المقابل لم تقف الإدارة البريطانية مكتوفة الأيدي فسارعت نحو القيادات التقليدية والدينية، وأجزلت لها العطاء، وأغرقتها بالإغراءات بهدف استقطابها إلى صفها، وتحشيدها للوقوف ضد خيار وحدة وادي النيل، “، ونتج عن تلك السياسات كسب ود القيادات التقليدية التي دفعت بعريضة إلى الحاكم العام اعلنت فيها تأييدها الكامل والقاطع للنظام الحاكم في السودان، نافين صلتهم بالحركة التي تجري في مصر. وانبرى حسين شريف، في صحيفة ” الحضارة” لدحض وحدة وادي النيل، فكتب أربع مقالات بعنوان ” السودان ومصر والمسألة السودانية” ص ٤٢٦، وانحاز شريف، إلى البريطانيين باعتبار أن السودانيين لا يستطيعون حكم أنفسهم؛ والأفضل لهم أن يكونوا تحت الوصاية البريطانية، بدلاً عن أن يحكمهم المصريون، متعللاً بأن مصر لا تملك الخبرات والوسائل كي تحكم الآخرين.
لقد غرست المواقف من مصر وبريطانيا بذرة الخلافات داخل جمعية الاتحاد، وأعلن عبيد حاج الأمين، في عام ١٩٢٣ الثورة، ونادى بتغيير أساليب العمل السرية، ووضع الجمعية على حافة المواجهة مع البريطانيين.
انقسمت جمعية الاتحاد السوداني في عام ١٩٢٤، وتكونت فوق حطامها جمعية اللواء الأبيض/ بقيادة عبيد حاج الأمين، والضابط علي عبد اللطيف، وسارت في ذات التيار الموالي لمصر، وهو ما عرَّض الجمعية إلى مدفعية الزعامات التقليدية، وتهافت الزعماء نحو اظهار الولاء لبريطانيا، رفعوا عريضة أسموا الموقعين عليها ” كرام القوم”.
منذ تلك الفترة انطبعت القوى السياسية بختم التشظي، حيث لم تنج من هذا الوباء حتى الأوساط الأدبية والثقافية؛ مستصحباً معه صراعات الهوية، مثلما حدث في جمعية أبوروف التي أسسها خريجون من كلية غردون، منهم حسين وحسن عثمان الكد، حماد توفيق، علي العتباني، وإبراهيم أنيس، ثم أعقبتها بعد سنوات جمعية الهاشماب كمنافس لها وشارك في تأسيسها يوسف مصطفى التني، وعبد الله عشري صديق، وعبرت جمعية الهاشماب عن تيار وعي قومي.
وشهد نادي الخريجين كذلك صراعات حادة بين الفئات المتعلمة والمثقفة، و انتقلت تلك الصراعات إلى مؤتمر الخريجين؛ الذي انقسم إلى مجموعتين؛ انضمت احداها، وعلى رأسها الأزهري، ويحي الفضلي، إلى الحركة الاتحادية، وآثرت مجموعة أخرى ضمت محمد أحمد المحجوب، وآخرين الانتماء إلى حزب الأمة.
لقد فضحت صراعات الحركة الوطنية ما كان يستبطنه عقل القيادات التقليدية من استعلاء ثقافي عبرت عنه صحيفة ” الحضارة ” التي نشرت مقالاً جاء فيه” إنها أمة وضيعة التي يقودها أمثال علي عبد اللطيف، ومن هو علي عبد اللطيف؟ وإلى أي قبيلة ينتمي؟”. وذهب البعض إلى وصف تلك الجماعة بالمنبتة!.
ثمُّ سعت النُّخب الحاكمة في السودان لحسم سؤال الهُويّة وفق تصوراتها هي، وأصرت على أن تجيب على هذا السؤال المصيري بالقوة، بالانحياز للهوية العربية، واقصاء مُكوِّنات ثقافية أساسية من مُكوِّنات الشعوب السودانية.
إنَّ دراسة الظاهرة يقتضي البحث في احداثيات العقل السوداني ومنصات انطلاقه؛ التي تتمثل في الهوية؛ وتفرعاتها الثقافية واللَّغوية والاثنية، والحضارية، والدين ومناهج التعليم، وهذا ما يعرف عند المفكر لالند، بأنه العقل ((المكوَّن))، أو السائد، وباختصار هو منظومة القيم والأفكار والتصورات التي شكلت نمط العقل.
إذا ما تعمقنا في الحالة السودانية نجد أن منصة الانطلاق للتفكير مبنية على ثنائية ( عرب/ أفارقة، مسلمون/ غير مسلمين، لذلك عندما نتناول أي ظاهرة مرتبطة بجوهر التفكير والعقل سنجد أن أزمة منصات الانطلاق بقدرما هي محفز، إلا أنها شكّلت أزمةً في طرائق عمل العقل ( المكوِّن) أي المنتِج، وتتمثل في وجود انشطار الهوية وثنائيتها، توجد هوية كبرى متشظية، وهويات صغرى متصاعة فيما بينها من جهة، وضد الهوية الأكبر من جهة أخرى..
ارتبطت ثنائية الهوية ” بالصراعات الكبيرة، وتمظهرت في حروب الشمال والجنوب، ثم زرقة وعرب في دارفور، و ما بين هامش ومركز؛ بين الأطراف والسلطة المركزية في الخرطوم، كما لم تسلم من داء الانقسامات كثير من القوى السياسية بما فيها التي ترفع شعارات تقدمية مثل اليسار، الذي ظلت قياداته حكراً على جهات عرقية وجهوية محددة، وكذلك الحركات الدينية التي تقدم العروبة على الإسلام في غالب مواقفها.
نشير هنا إلى صراعات داخل ” المؤتمر الوطني الحاكم” في منتصف التسعينات عندما أضطرت لجنة الانتخابات الى تزوير النتيجة بابعاد المرشح الفائز الشفيع أحمد محمد، لأنه منحدر من دارفور، وتفضيل غازي صلاح الدين، عليه؛ واختياره أميناً للحزب الحاكم، وهو حزب الجماعة التي بسببها قال القيادي الإسلامي داؤود يحي بولاد، أنه وجد لديهم أن الدم أقوى من الدين.
ولم تفارق ” الثنائية ” حتى القوى السياسية المهمشة التي وقعت في فخ التناقضات الكبيرة والصغيرة، ففيما تشكو تلك القوى من تهميش المركز لها لأسباب اثنية أو جهوية، فقد شربت هي من ذات الكأس، وتحولت التناقض مع المركز إلى تناقض داخلي؛ مثلما حدث للجيش الشعبي لتحرير السودان وصراعات ” الدينكا والنوير” أو ” الدينكا والشلك” في تسيعينات القرن الماضي وما سببته من حرب ضروس بين الدكتور جون قرنق من جهة، ورياك مشار ولام أكول من جهات أخر.
وكذلك تناسلت الحركات المسلحة في دارفور فيما بينها وشهدنا التنافس ما بين الزغاوة ” مني أركو مناوي” والفور ” عبد الواحد محمد نور، وحركة العدل والمساواة/ لتبلغ عدد الحركات المسلحة أكثر من ٤٠ حركة تحمل ذات الاسم مع تقديم وتأخير للكمات أو إضافة صفة أو اسم القائد ليكون جناحاً مناوئاً.
بالطبع ثمة عوامل أخرى ساهمت في حالة التشظي الملازمة للقوى السياسية منذ بداية تشكل الدولة الحديثة، مثل الصراع على النفوذ والسلطة، ويمكن الإشارة إلى انقسامات حزب الأمة في عام ١٩٦٦ بين جناحي الهادي المهدي وابن أخيه الصادق” ليتقسم الحزب لاحقاً إلى أكثر من خمسة أحزاب تحمل ذات الاسم، وكذلك شهدت الحركة الاتحادية انقسامات حادة ومتعددة منذ عام ١٩٥٦، والحزب الشيوعي السوداني في عام ١٩٧٠، والحركة الإسلامية التي بدأت أولى مراحل انقساماتها في عام ١٩٦٩ ما بين جناح الأخوان المسلمون وجناح الترابي، وحدثت أكبر الانقسامات التي هزت الحركة الإسلامية في عام ١٩٩٩؛ وما اصطلح بتسميتها بالمفاصلة داخل المؤتمر الوطني الحاكم بين الفريق عمر البشير وعراب الحركة الدكتور حسن الترابي.
بالعودة إلى التحالفات السياسية مثل تنسيقية ” تقدم” لا نجد غرابة حول ما حدث من فك ارتباط أو طلاق سياسي بين مكونات التحالف العريض في سياق واقع سوداني متمزق، وبالضرورة استنتاجاً نجد أنَّ معرفة الكل تتطلب معرفة خصائص الجزء، وبما أنَّ خصائص الوحدات الصغيرة المكونة للحلف تحمل تناقضات في داخلها، فبالضرورة فإن المكون الأكبر ” الحلف” يحمل داخل بنيته ذات التناقضات.
يجب الإشارة كذلك إلى طبيعة قوى ” الجبهة الثورية” المناطقية والعسكرية، فهي قوى نشأت عسكرياً وهذا ما يضعف عملية الممارسة الديموقراطية في داخلها، أو السماح بذلك مع القوى المتحالفة عند الاختلافات، وكان نتيجة ذلك أن ارتمت بعض قوى الكفاح المسلح في أحضان المنظومة القاهرة لهاـ وتحالفت مع الاستبداد، وتماهت مع المستبد ووسائله وأفكاره وقيمه وممارساته، بدلاً من اختيار مسار التحرر والانعتاق.
لم تنزل أحزابنا السياسية علينا من السماء، فهي نتاج لتفكيرنا الجمعي، ويعاني معظمها من وجود خلل بنيوي وهيكلي يتجلى في غياب الرؤية الواضحة، ضعف المؤسسية، والهشاشة التنظيمية، و غياب الممارسة الديمقراطية داخلها، وتصلب شرايينها التنظيمية، واعتمادها على قيادة فوقية في أجواء تنتشر فيها أمراض الشللية، و شح النفس، وغلبة الطموحات الفردية التي تفشل كل اللوائح الأطر التنظيمية في كبج جماحها، و تحصينها من الانزلاق في وحل اغراءات القوى المعادية.
تزداد هذه العيوب كلما اتسمت خيوط القيم الديموقراطية بالوهن، واكتفت قيادات الأحزاب بما نسميه ((الديموقراطية الإجرائية)) ونقصد بها ” الاحتفاء بالجانب الشكلي من الديموقراطية، ويتمثل في الاجراءات، اللوائح، دون التركيز على الديموقراطية كثقافة أو التطبع بسلوكها خلال ممارسة الفعل السياسي، أو عند إدارة الاختلافات الداخلية والخارجية.
لماذا لا تحاول أن تتعلم كتابة المقال بدلا عن كتابة الخطابات السطحية عديمة الهدف. خطابك أعلاه ليس له بداية ولا خاتمة ، ويحتوي على معلومات معلومة بالضرورة ، كان تقول لنا الاحزاب لم تنزل من السماء ومن قال ان الاحزاب قد نزلت من السماء؟. هذه هى مشكلة كل الذين تصدوا للتغيير وانت منهم يا سليك ، كل قدراتهم و جهدهم منصب نحو التغيير بالخطابة أو التغيير بأسلوب نشطاء أركان النقاش والتبارى فى الخطابة والوصف . لقد خلا خطاب هؤلاء، وانت منهم يا سليك، تماما من الفكر والعلم والمعرفة. لذلك خلت خطابك أعلاه من الفكر والمعرفة والعلم وأصبح مجرد (قوالات) ملقطة من هنا وهناك لم يثبتها احد مصداقيتها .
مقال جيد ولا غبار عليه
والله كتر خيرك. هذا مقال على جانب عظيم من الأهمية وفيه عناية فائقة بالمضمون والعلم والمعرفة بالتاريخ السياسي السوداني. ياخي شكرا وما تهتم بكلام كسير الاجنحة والمجاديف. نحن، كسودانيين، باركين تحت أزمة ما انزل الله بها من سلطان، وكل كلمة صادقة وفيها شوية علم هي بس نسمة في سبيل الإستنارة وفهم روحنا وماذا ينفعنا. شكرا فايز!
الكاتب نظر إلى التاريخ كحقائق وبنى عليها رؤيته ولم يتعمق في جوهر وأسباب التشظي والاختلاف بين الكيانات او ما يسمى بالاحزاب والتنظيمات المرتبطة بها والعرق والجغرافيا..وأعتقد أن ما يسمى بالهوية السودانية هي هوية مصنوعة سواء كانت قبلية او دينية او جهوية او حتى نخبوية بهدف الاستعلاء الطبقي والكسب ولا تصلح لبناء مجتمع موحد قادر على ممارسة سلوك يومي يحترم الآخر وحقوقه مهما كان لونه وموقعه الجغرافي ومستوى تعليمه وربما تكون الطبقات النخبوية والسياسية السبب الرئيسي لتخلف المجتمع والسودان لانها تريد مجتمع يبصم على ما يفرض عليه ولا يسأل لماذا وكيف …. ويشارك في صنع القرار … إلخ..
مهما حاولنا تبرير فشل الحكم في السودان لا نجد غير سبب جوهري أن من يسعى للحكم تحت مسمى طائفة او حزب او تنظيم هدفه غنائم الحكم والمصالح ولو على حساب اضعف الطبقات والهيبة والسطوة ولو على حساب العدل وممارسة الظلم وليس مصلحة السودان!!!
مجرد رأي :
إذا لم نراجع أنفسنا ونصحح مفاهيمنا للحكم ونزرعها في النفوس معززة بالدستور وقواعد الحكم الرشيد بحيث يكون الحكم من أجل سلامة وتنمية ورفاهية الوطن والمواطن.
نقد الماضي لا يقدم ولا يؤخر ولا يضيف بل النظر إلى الحاضر والمستقبل وتشخيص العلل وتطبيق أسس حكيمة لادارته بعيداً عن نظريات التاريخ والارث السياسي الفاشل والانتماء الضيق والاقصاء.. حقيقة كنت أريد ان اعرف من الأستاذ فائز وهو كان ضمن منظومة الحكم ممارسة او ممارسات رشيدة كان لها تأثير إيجابي مستدام على الشعب السوداني ويمكن تطبيقها.. نحن كشعب سوداني مملنا وشعبنا من تجارب الحكم الفاشلة من أقصى اليسار الى أقصى اليمين