مقالات وآراء سياسية

القضية الفلسطينية بين الخذلان العربي والرؤية الفكرية البديلة

حسن عبد الرضي الشيخ

 

تُعد القضية الفلسطينية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في العالم الحديث، ليس فقط بسبب التشابك السياسي والديني والثقافي ، ولكن أيضًا بسبب الخذلان العربي والإسلامي المستمر ، الذي تراوح بين الشعارات الجوفاء والادعاءات الكاذبة ، بينما لم تُتخذ خطوات عملية لاستعادة الحقوق الفلسطينية. وفي هذا السياق ، قدّم الأستاذ محمود محمد طه رؤية فكرية مختلفة ، تبتعد عن النزعات العاطفية ، وتطرح بدائل عقلانية قائمة على التفاوض والسلام العادل بدلًا من الحروب العقيمة.

 

يلحظ المتابعون التفريط العربي والإسلامي في القضية الفلسطينية ، رغم أن الغالبية العظمى لا تدرك هذه الحقيقة الماثلة بوضوح ، وذلك بسبب تأثير الإعلام العربي الهتافي. ورغم ما يُسمى بـ”التضامن العربي” مع فلسطين فإن الحقيقة المُرّة هي أن معظم الأنظمة العربية استغلّت القضية لتحقيق مكاسب سياسية داخلية أو لتبرير استبدادها ، دون اتخاذ إجراءات حقيقية للدفاع عن الحقوق الفلسطينية.

 

كانت هناك عدة مواقف خادعة تبنّتها الدول العربية ؛ أولها الشعارات الجوفاء التي لم تصاحبها أفعال على أرض الواقع ، فقد رفعت الأنظمة العربية شعارات رنّانة مثل “تحرير فلسطين من النهر إلى البحر” و”المقاومة مستمرة”، بينما على الأرض كانت هناك تحالفات سرية واتفاقيات غير معلنة مع إسرائيل ، إضافة إلى الفشل في اتخاذ قرارات سياسية أو عسكرية فاعلة لصالح الفلسطينيين. ثم جاء التخاذل بعد نكسة ١٩٦٧م ، حيث أصدرت الدول العربية لاءات الخرطوم الثلاث : “لا صلح ، لا تفاوض ، لا اعتراف” ، لكن هذه اللاءات لم تكن سوى تكريسٍ لحالة الجمود والعجز العربي ، وهو ما انتقده الأستاذ محمود محمد طه بشدة.

 

ثم جاء دور التطبيع التدريجي بعد شعور كثير من القادة العرب باليأس من إيجاد حل بسبب التعنت الإسرائيلي المدعوم بالآلة الإعلامية الغربية. فقد شهدت العقود الأخيرة تحولات خطيرة تمثّلت في التطبيع العلني بين بعض الدول العربية وإسرائيل ، في تناقض واضح مع الشعارات السابقة. وقد تم تبرير ذلك بمصالح اقتصادية وأمنية ، بينما استمر الاحتلال الإسرائيلي في سياساته القمعية والاستيطانية.

 

وأخيرًا ، اضطرت كثير من الدول والجماعات إلى التوظيف الأيديولوجي للقضية ، حيث استخدمت بعض الحركات الإسلامية المتشددة القضية الفلسطينية كذريعة لتبرير وجودها ، مثل داعش ، وحزب الله ، وحماس. لكنّها في كثير من الأحيان لم تقدّم أي حلول حقيقية ، بل زادت الأمور تعقيدًا بسبب توجهاتها الأيديولوجية المتطرفة.

 

في خضم هذا الواقع المعقّد ، ظهرت للعلن ، قبل أكثر من نصف قرن ، ظهرت رؤية الأستاذ محمود محمد طه لحل الصراع العربي-الإسرائيلي. فقد تميّز بنظرة فكرية عميقة ومختلفة ، حيث رأى أن المواجهة المسلحة مع إسرائيل دون تخطيط واستراتيجية واضحة ستؤدي إلى كوارث مستمرة للعرب ، وهو ما أكده التاريخ. فبعد هزيمة ١٩٦٧م ، انتقد الشعارات الفارغة للقادة العرب ، ووصفها بأنها مجرد “جعجعة” لا تحقق شيئًا ، ودعا بدلاً من ذلك إلى التفاوض باعتباره الخيار الأكثر حكمة.

 

ولم يكن موقف الأستاذ طه دعوة للاستسلام ، بل كان إدراكًا للواقع ، حيث رأى أن استمرار الصراع العسكري دون توازن قوى سيؤدي إلى مزيد من التراجع العربي. لذلك ، طالب بإعادة النظر في استراتيجيات المواجهة ، والاستفادة من الدروس التاريخية عبر التفاوض من أجل تسوية عادلة تضمن حقوق الفلسطينيين.

 

وقد أطلق الأستاذ محمود طه مفهوم “الصلح خير”، مستندًا إلى المفاهيم الإسلامية الحقيقية ، مثل مبدأ “الصلح خير” ، ورفض الاستغلال الديني العاطفي الذي دفع العرب إلى مواجهات غير محسوبة النتائج. كما رأى أن الحوار مع إسرائيل قد يكون أكثر جدوى من الحروب الفاشلة التي استنزفت الموارد وأدت إلى مزيد من الاحتلال والاستيطان.

 

وأكد الأستاذ محمود محمد طه على ضرورة إصلاح الداخل العربي قبل مواجهة الخارج ، حيث شدّد على أن المشكلة ليست فقط في الاحتلال الإسرائيلي ، بل أيضًا في تردي الأوضاع داخل المجتمعات العربية. فقد رأى أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتحقق إلا بإصلاح الداخل ، من خلال القضاء على الاستبداد والفساد ، والتخلص من الشعارات الزائفة ، والعودة إلى الإسلام في جوهره الأخلاقي ، وليس كأداة سياسية.

 

وجاءت الطامة الكبرى والصدمة التي تحسّب لها الأستاذ محمود محمد طه ، والتي واجهت نقدًا سطحيًا من كثير من السياسيين والمفكرين آنذاك. فقد تعرّى النظام العربي بشكل فاضح في الوضع الراهن ، في ظل محاولة القادة العرب التصدي للحلول القسرية التي تفرضها إسرائيل عبر الرئيس الأمريكي المتهور ترامب.

 

وفي ظل التحولات الجيوسياسية الأخيرة ، وخاصة بعد فترة رئاسة دونالد ترامب ، بات واضحًا أن هناك محاولات لفرض حلول قسرية على الفلسطينيين ، من خلال سياسة التهجير القسري. حيث تمارس إسرائيل بدعم غربي ، ضغوطًا مكثفة على سكان غزة والضفة الغربية لدفعهم إلى مغادرة أراضيهم ، سواء نحو سيناء أو الأردن أو مناطق أخرى ، في تطبيق عملي لفكرة “الترانسفير” التي طرحتها بعض الأوساط الإسرائيلية منذ عقود.

 

كما وضعت إسرائيل الجميع أمام الحصار والتجويع ، مستخدمةً في ذلك العقوبات الاقتصادية والتضييق المعيشي كوسائل لدفع الفلسطينيين إلى قبول حلول مجحفة ، أو على الأقل ، دفعهم إلى الهجرة الطوعية تحت ضغط الحاجة. كل ذلك وسط صمت القوى الكبرى ، حيث انشغلت روسيا بحربها مع أوكرانيا ، وأُرهقت أوروبا بأزماتها الاقتصادية ، فلم تعد القضية الفلسطينية على أجندة القوى الكبرى ، ما أعطى إسرائيل مساحة أكبر لتنفيذ سياساتها التوسعية دون رادع دولي.

 

السؤال المنطقي المطروح حاليًا : هل نفد الوقت في إمكانية تبنّي رؤية الأستاذ محمود محمد طه اليوم؟ وهل يمكن أن يكون الحل في تبنّي استراتيجية جديدة أقرب إلى رؤيته ، تقوم على تفاوض عادل يضمن حقوق الفلسطينيين؟ أم أن الواقع يسير باتجاه فرض الحلول بالقوة والإكراه؟ .

 

لا شك أن خيار التفاوض لم يكن خيارًا ساذجًا كما صوّرته بعض الأطراف ، بل هو بديل استراتيجي يمكن أن يكون أكثر فاعلية إذا ما توفرت الإرادة السياسية العربية والفلسطينية لدخوله وفق شروط واضحة تحمي الحقوق الفلسطينية. فلا بد أن الحل العاجل يكمن في التفاوض ضمن رؤية عادلة ، أما الحل الآجل فهو إصلاح الداخل العربي ، عبر التخلص من الاستبداد والفساد والتشرذم ، والعودة إلى قيم الإسلام الحقيقية القائمة على العدالة ، وليس الشعارات الزائفة التي كرّست الهزائم.

 

وفي الختام ، القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع سياسي ، بل هي اختبار حقيقي للضمير العربي والإسلامي. وبينما يرفع القادة العرب شعارات براقة ، يواصل الفلسطينيون دفع الثمن وحدهم. رؤية الأستاذ محمود محمد طه للصراع لم تكن استسلامًا ، بل كانت محاولة لإيجاد بديل عملي يمكن أن يحقق الحد الأدنى من العدالة. وبينما تتجه المنطقة نحو حلول قسرية ، يبقى السؤال الأخير : هل سيستمع العرب إلى صوت الحكمة ، أم سيواصلون تكرار أخطاء الماضي حتى تُفرض عليهم حلول الأمر الواقع؟ .

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..