مقالات وآراء

التيجاني عبد القادر: كان انصلح تعليما لو كان فينا مجنون قرية أوغيدي

 

لا أعرف مثل الدكتور التيجاني عبد القادر من عزز فكرتي عن أن المدرسة، نتاج بخت الرضا، مصممة لقطع الآصرة بين الطالب وثقافة المحيط. فقام ذلك المعهد فينا على فرضية تبشيرية استعمارية معروفة وهي أن استعمارهم غيرهم هو استنقاذ لهم من ثقافتهم المتوحشة، أو الفقيرة على أقل تقدير. وصمم الإنجليز منهجهم للتعليم في بخت الرضا على جعل المدرسة هي الفانوس في بلد للظلام الدامس يعاني من أنيميا في الثقافة حادة. وسميت هذه المدرسة الخارجة من رحم هذه الفلسفة “المرأة الحسناء في منبت السوء” في كتابي “بخت الرضا: التعليم والاستعمار”. فاشتكى التيجاني في مقال أخير عن أيامه بمدرسة أم روابة الوسطي في النصف الأول من الستينات من أنه خرج جاهلاً بأم روابة في حين احتشدت المعارف في رأسه عن بلاد تركب الأفيال. (وقال إن الدراسة كانت إلى يومهم بمصاريف ترفع بتفاوت عن فقراء الناس خلافاً لذائعة مجانية التعليم في السودان منذ آدم وحواء التي تعشعش في أذهان صفوتنا). والحكاية التي استفادها من الكاتب النيجيري شنو آشيبي، مؤلف رواية “الأشياء تتداعى”، غاية في البلاغة بمقتضى الحال. فإلى مقال التيجاني:

والحديث عن ام روابة ومدرستها الوسطى-في الستينات- يطول، ولكن وأنا أعود بالذاكرة الى الوراء-بعد سنوات طويلة في التدريس والبحث- أخذت تتداعى إلى ذهني ملحوظات صغيرة أضعها هنا لمن يهمه الأمر. أولاً: كانت المدرسة بمثابة واحة مفصولة جغرافياً واجتماعياً عن القرى التي أتينا منها وعن المدينة التي أتينا إليها. ثانياً: كانت المدرسة كخزانة كبيرة للمعلومات-في وقت لم يوجد فيه تلفزيون أو كومبيوتر أو هواتف جوالة- فكان الاهتمام منصباً على ضخ الكلمات والأسماء والمعلومات. أما المعلومات على علاتها فلم تكن مرتبطة بسياق محلى-سواء السياق الجغرافي أو الثقافي-الاجتماعي. فرغم أنه كانت تقدم لنا مادة كثيفة عن خرائط العالم ومواقع المدن والانهار، إلا أنه لم يُقدم لنا درس واحد عن مدينة أم روابة التي كنا نسكن فيها، فلم نتعرف على موقعها الجغرافي، وعلاقتها بالصحراء في الشمال والجبال في الشرق، ولم نتعرف على مصادر مياهها العذبة التي كنا نستمتع بها، ولم سُميت بهذا الاسم. كما لم تُتح لنا فرصة لنتعرف على من كان يسكنها من الناس، وماذا فيها من صناعات وزراعات وتجارات. ورغم أن مدينة ام روابة كانت من أكبر أسواق المحاصيل الزراعية- السمسم والصمغ العربي والفول السوداني والكركدي- ألا أن تلك المحاصيل على أهميتها لم تجد مساحة في مقرراتنا الدراسية التي كانت مشغولة بمواطن زراعة القمح والقطن في الولايات المتحدة، وبنهر الميسيسبي والبحيرات الخمس وصناعة الحديد في ديترويت وريو دى جانيرو عاصمة البرازيل!
وفى المحصلة النهائية كانت معلوماتنا عن العالم تزداد، ولكن “الفجوة” بيننا وبين مجتمعنا المحلى-ناساً وأشياء وعلاقات- كانت تزداد أيضاً. ازداد احساسنا بالعالم الخارجي الكبير، ولكن “حسنا الاجتماعي” لم يكن ينمو كثيراً، ولم تصبح “المسئولية الاجتماعية” جزءاً من تكويننا الثقافي. كان ينبغي أن يقال لنا-على سبيل المثال- أنه لا يوجد شيء في الحياة يُعطى “مجاناً”، وأن ما نتمتع به “مجاناً” من وجبات وخدمات وكراسات وكتب كان له “ثمن” دفعه مزارعو السمسم والفول البسطاء، فينبغي أن نتعرف عليهم، وأن نشكرهم، وأن نشعرهم بأن هذه “الفاتورة” دين مؤجل في رقابنا سنرده في يوم من الأيام.
لم يكن المقرر الدراسي يركز على مفاهيم التطوع والعمل الجماعي والمشاركة والتعلم عن طريق الممارسة والتعلم من المجتمع. لم أر طيلة السنوات الأربع التي قضينا في تلك المدرسة تلميذاً يشارك في إطفاء حريق أو تشييع جنازة (وكنا نرى في كل أسبوع منزلاً من القش يحترق، وشخصاً من الناس يُشيع إلى المقابر). هذا النوع من التعليم-على جودته العلمية- يعزز بصورة غير مباشرة نزعة فردية مع رؤية نفعية للحياة وتعال على المجتمعات المحلية، وينعكس ذلك في صور من الاستهانة بالممتلكات العامة والحرص على الحقوق “المجانية”، مع اغفال الواجب الوطني، إلى غير ذلك من السلوكيات التي بلغت ذروتها في العروض الاجرامية التي نرى نماذج منها فيما تقدمه الآن قوات الدعم السريع وهي تجتاح المدن فتدمر آبار المياه والصيدليات ومراكز غسيل الكلى وتنهب الطواحين وتدمر محولات الكهرباء وتقطع الأسلاك الناقلة للتيار الكهربائي-مما يشير الى أن حصوننا مهددة من الداخل، وأن أسرنا ومعابدنا ومدارسنا ليست على ما يرام.
ملحوظة أخيرة:
يشير الروائي النيجيري الشهير-شينوا آجيبىي- في مذكراته أنه حينما كان تلميذاً صغيراً في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي كان يتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة بقرية أوغيدى. أراد مدرس الجغرافيا ذات مرة أن يغير الروتين، فطلب من التلاميذ أن يجلسوا خارج الفصل تحت شجرة من أشجار المانجو، وأخذ يشرح لهم درساً يتعلق بجغرافية بريطانيا العظمى. فما كان من مجنون القرية (the village mad-man) وقد كان يقف قريباً من شجرة المانجو يستمع إلى الدرس، ما كان منه إلا أن تقدم نحو المدرس وخطف منه الطبشورة ثم مسح ما كان من بيانات على السبورة وأخذ يلقى على التلاميذ درسا مطولا عن قرية أوغيدى التي أتوها من القرى المجاورة. يقول الأستاذ شينوا في تعليقه على تلك الحادثة أنه صار-حينما يعود بالذاكرة الى الوراء- يدرك أن من كان يدعى بمجنون القرية قد توفر له “وضوح في الرؤية” جعله أول من يدرك شذوذ الحالة التعليمية في نيجريا، أراد ذلك “المجنون” أن يقول “للعقلاء” إن التلاميذ لا يحتاجون فقط إلى التعليم الذى يضعه المستعمر، وإنما يحتاجون أيضا لمعرفة تاريخ وحضارة مجتمعاتهم المحلية. (أما في حالتنا نحن فلم يسعفنا الحظ فيدخل علينا أحد “المجانين”!) ولا قوة إلا بالله.

‫10 تعليقات

  1. مع كامل الاتفاق مع ان العملية التعليمية سواء في المرحلة الجامعية او ما قبلها نتاجها خريجين منزوعي الرحمة تجاه المجتمعات التي جاءوا منها، بل منهم من يحتقرها.
    اصلاح ذلك يبدأ من فك الارتباط بما هو وافد من خارج الحدود في ما يلي اللغة والزي، ثم يكون بعد ذلك المنهج المرتبط بالبيئة والمنفتح في نفس الوقت على العالم، والزي جزء من الهوية ويرتبط بالمناخ، لذلك من غير المعقول ان يلبس الشخص في جو صحراوي ملابس داخلية يعلوها قميص باكمام طويلة تنتهي بازار تحكم الخناق على المعصم، ثم جاكيت من طبقتين في احايين كثيرة، ويحكم ربطة العنق على رقبته لمزيد من سد المنافذ على نسمة الهواء. على الله لباس قومي يناسب البيئة ولا يعيق العمل والحركة.
    المسألة الاخرى لا يمكن رد ما جاء به الدعم السريع الى المدرسة ومنهجها، فالقوم لم يغشوا المدارس ولم يرتادوها، الامر مرده الى غياب التنمية والبيئة الحضرية التي تروض النزعات العدوانية وتشذب السلوك، باختصار هو نتيجة فشل الدولة في التنمية والخدمات.

  2. وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا _ الجاثية 13 . صدق الله العظيم
    ولعل حقد الكاتب تجاه البشرية و الحرية كما اعتدنا من مقالاته السابقة دفعه لهذا الخلط بين نظرية المعرفة و نظريات التعلم ! , فالمعرفة هى الجزر و الهدف , اما نظريات التعلم مثل البنائية و السلوكية و المعرفية هى الوسائل التى تقود الى تحقيق الهدف.
    ولأن المولى عز وجل يفهم ابعاد النفس البشرية (الامارة بالسوء) و منها ما يشتط مثل ما يعتمل من حريق و شرور و جنون مطبق فى نفس الكاتب , فقد أستبق المولى عز ّ وجل فى كتابه جنون ابراهيم و اصحاب السعن الذين سبقوه فى المناهج الدراسية السودانية بالايات الكريمة اعلاه , وقد تم تكرارها فى مختلف سور القرآن تأكيدا بتكريم بنى ادم و خلافتهم فى الارض ليعمروها و يعملوا بها , أن يطوعوا بيئتهم لا أن تصبغهم الاخيرة !.
    ولكن ما ترانا فاعلين مع من لا يريد التدبر فى ايات الله ولا يريد اخذ العلم و التجارب البشرية من معينها و اصول منابعها ؟!
    يريدون أن يطفئوا _نور الله_ بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. صدق الله العظيم.

    1. هل أنت فهمت الموضوع؟ أنا أشك في ذلك. فما ذكرته لا يختلف مع الموضوع بل يعزز فكرته، فالكلمة الغريبة فقد هي شتمك للكاتب بأنها حاقد، ولم أر حقدا في المقال الذي قرأته. الكاتب ينتقد تغريب التعليم السوداني عن بيئته، وأول من ذكر هذه الفكرة بوضوح هو الطيب صالح في روايته العظيمة موسم الهجرة إلى الشمال؛ وذلك عندما تطرق إلى مؤتمر التعليم في قاعة الاستقلال ووصف المؤتمرين أوصافاً دقيقة، وحينما أشار لأعلام نخب الخرطوم تقود حملاتها في الأرياف البعيدة تدعوهم لانتخاب مرشح الحزب. راجع المقال جيدا، فربما ستطلب من الركوبة حذف تعليقك.
      ولمعرفة موضوع المقال أنصحك بقراءة كتاب (تعليم المقهورين) لباولو فرايري

      1. يبدو انك الذى لم تسطع فهم كلماتى ، فالتعليم ليس فيه تغريب او تشريق ، فهو مبنى على المعرفة و الحقائق و امثالك و الكاتب ممن يريدون تلوين و تزييف و تاصيل العلم هم الاولى بالاقصاء و الحذف.

  3. ثمانية وستون عاما منذ خروج الانجليز ماذا فلعنا نحن للتغيير الي الافضل كما تزعم؟!!! الانجليز راحو بخيرهم وشرهم يا رجل..

  4. (أما في حالتنا نحن فلم يسعفنا الحظ فيدخل علينا أحد “المجانين”!)
    Communism is, but, Out of Time and Place and unfit for the era and environment
    بل و الأهم من ذلك ما أحوجنا لمجنون يؤذن فى (مالطتنا) أن كُفُّوا
    عن استيراد و اعتناق ما هو كاسد من الخارج . ما أحوجنا لمجنون
    يقول لنا ما بال البعض منكم يعتنق الشيوعية و قد عافها حتى أهلها.
    تلك التى أفسدت و فسدت فى الأرض من كالينينقراد الى نوفوسيفرسك
    و من طشقند الى ستالينبنقراد. لو بعث فينا كارل ماركس و أنقلز و رأا ما رآ من
    بؤس الشيوعية و الشيوعيين لصارا من أنجب و أرشد تلاميذ حسن البناء.

    1. تصحيح من كاتب التعليق
      الخطأ: لو بعث فينا كارل ماركس و أنقلز و رأا ما رآ
      الصحيح : لو بعث فينا كارل ماركس و أنقلز و رأيا ما رأيا

  5. الأستاذ الفاضل
    بروفسير/عبدالله علي ابراهيم
    تحياتي وسلامي
    قرأت كتابك حول رؤية التيجاني عبدالقادر ،للتعليم في زمانه وهو قد يكون من جيلنا و جيل بروفسير,/ قرشي محمد علي، الأستاذ في جامعة الخرطوم والجزيرة و مؤسس الجامعة الوطنية. ومع ذلك نري بروفسير قرشي ،يطلق علي مذكراته “علي اكتافهم” تعبيرا عن امتنانه لاهل السودان ،وقد وضح ذلك في كتابه الممتع. وكتب عن ارتباطه بمجتمعه و بمنطقته واديه مساهمات في قريته و في غيرها.
    هذا الامر،وداو ما اسميته بالمسؤلية المجتمعية يعتمد علي الفرد و تربيته وليس علي المدرسة التي اراد الانجليز عزل منتسبيها من مجتمعهم.
    وقد يكون نموذج المرحوم/ عبدالوهاب موسى وهو من خريجي اداب الخرطوم في عام 57 خير دليل علي هذه الفكرة،فهو قد بدأ دراسته كلها والحكم الانجليزي ما زال مسيطرا…ولكنه لم ينسي مجتمعه وقد سعي لحل كثير من مشاكله،مثل :مشكلة اعتماد الناس علي الرغبف أو القمح ،فقد عمل علي صناعة ماكينة لتصنيع الكسرة الرهيفة! سعيا لاعادة الذرة كغذاء شعبي و مقبول…فقد كانت تصلنا الكسرة من مصنعه في داخليات جامعة الخرطوم في اوائل السبعينيات من القرن الماضي…وساعد النسوة اللائي يبعنها في اسواق العاصمة بمدهن بترابيز انيقة مع مظلة و كسرة المصنع مع ما ينتجن من كسرة و بذلك صنع نموذجا للراسمالية غير المتوحشة أو المثقف العضوي!
    ولديه عدد من الاختراعات المسجلة،منها مكنة لزراعة القطن واخري لخلع أو ازالة عيدانه بعد لقيطه… وهي اختراعات فشل المهندسون في انجازها…
    ولك خالص التقدير
    اعدت الرسالة هنا،فقد قرأت الموضوع في سودانايل..

  6. (أما في حالتنا نحن فلم يسعفنا الحظ فيدخل علينا أحد “المجانين”!) Communism is, but, Out of Time and Place and unfit for the era and environment بل و الأهم من ذلك ما أحوجنا لمجنون يؤذن فى (مالطتنا) أن كُفُّوا عن استيراد و اعتناق ما هو كاسد من الخارج . ما أحوجنا لمجنون يقول لنا ما بال البعض منكم يعتنق الشيوعية و قد عافها حتى أهلها. تلك التى أفسدت و فسدت فى الأرض من كالينينقراد الى نوفوسيفرسك و من طشقند الى ستالينبنقراد. لو بعث فينا كارل ماركس و أنقلز و رأيا ما رأيا من بؤس الشيوعية و الشيوعيين لصارا من أنجب و أرشد تلاميذ حسن البناء.

  7. المثقفاتي يصر أن التعليم لم يكن مجانيا وأن التعليم لم يكن محليا وأن بخت الرضا قطيعة وأن التجاني عبد القادر سند ومرجع فيما ذهب إليه.
    المثقفاتي الحالم تعلم تعليما بريطانيا حتى الجامعة وأمريكيا حتى الدكتوراة ثم وجد فرصة في جامعة ميسزوري ليدرس فيها- طبعا لم يمكنه أن يدرس في جامعة الخرطوم نسبة لشروط التعيين
    المثقفاتي الغاضب يعاني من حقد على جيلة وعلى الأجيال في سن أحفاده وحقد على بلد نشأته الذي لم يقبل به حتى مرشحا لمنافسة عمر البشير. نعم يصل طور الترشيح ضده حتى لأن لا أحد قام بتزكيته للترشح ناهيك عن عشرة آلاف إسم لتزكيته.
    المثقفاتي الحاقد يعيش ويعمل فئ أميريكا ولكنه ينتقم من وطن نشأته عبر كتابات في وسائط بلد نشأته وهو لا يستطيع أن يكت رأي op-ed في صحيفة محلية في مدينته في أميركا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..