حميد البلاد في صباها لسه والوطن في عز شبابو

هلال وظلال
عبد المنعم هلال
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الشاعر الكبير محمد الحسن سالم حميد الذي اشتهر بحبه العميق للوطن وكتاباته النضالية المعبرة عن هموم الشعب السوداني وآماله.
ولد حميد عام 1956م في قرية جريف نوري بالولاية الشمالية حيث تلقى تعليمه الأولي والمتوسط في نوري ثم أكمل دراسته الثانوية بمدرسة عطبرة الشعبية الثانوية وعمل في هيئة الموانئ البحرية بين عامي 1978م و1992م متنقلًا بين الخرطوم وبورتسودان وتوفي في 20 مارس 2012م إثر حادث مروري أليم على طريق شريان الشمال عند الكيلو 172 وقد تم إطلاق اسمه على أحد الشوارع الرئيسية في نوري تخليداً لذكراه.
تميزت كتابات حميد بانحيازه الدائم للفقراء والبسطاء من أبناء وطنه وقد تجلت هذه الروح في معظم قصائده الوطنية والعاطفية.
ألف حميد عدة دواوين شعرية منها حجر الدغش ومجموعة نورا /الجابرية، ست الدار / الرجعة للبيت القديم / مصابيح السما التامنة وطشيش وأرضاً سلاح.
تغنت بأشعاره مجموعة عقد الجلاد الغنائية بأعمال مثل نورا وطنا الزين كما غنى له مصطفى سيد أحمد مجموعة من القصائد من بينها طيبة وقاسم أمين وعم عبد الرحيم والضو وجهجة التساب.
رغم رحيله بقي حميد حاضراً في وجدان السودانيين بشعره الذي يلامس أحلامهم ويمثل ضميرهم الحي وقصائده ستظل مصدر إلهام لكل من يؤمن بالحرية والعدالة وكرامة الإنسان.
تعتبر القصيدة الوطنية واحدة من أهم أدوات التعبير عن أحلام الشعوب وآمالها في الحرية والسلام والتقدم وقد برع الشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد في تصوير معاناة الشعب وأمانيه من خلال قصائده العامية العميقة وتأتي قصيدته الشهيرة (السلام ملح المشاعر) التي تغنى بها عدد من الفنانين كصرخة إنسانية ونداء وطني يدعو إلى السلام والديمقراطية والتنمية والتماسك الاجتماعي .
وبلغة عامية جذابة يرسم حميد لوحة متكاملة تعبر عن أشواق السودانيين لوطن آمن ومستقر وينسج خيوط حلم لا يموت.
يفتتح النص بتأكيد حميد على أهمية السلام كعنصر أساسي في الحياة إذ يقول :
السلام ملح المشاعر
ومافي حب إلا انبدابو ..
ـ يشبه حميد السلام بالملح الذي يعطي للمشاعر طعمها وقيمتها مشيراً إلى أن أي حب أو استقرار لا يمكن أن يتحقق دون وجود السلام وهذا الافتتاح القوي يهيئ القارئ للدخول إلى عالم القصيدة المليء بالآمال الكبيرة.
يربط الشاعر بين نزول الديمقراطية وازدهار الوطن حيث يتمنى أن ينتشر الأمان في البلاد كنسيم لطيف أو (همبريب السلم) الذي يسير برفق لينثر الأمل في كل مكان ويعبر حميد عن طموحاته لوطن تتاح فيه الحريات وتصان فيه الكرامة الإنسانية حيث يقول:
والديمقراطية تنزل
والوطن يخضر ترابو
ـ يرى الشاعر أن الديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي بل هي الأساس الذي تقوم عليه حياة أفضل للوطن وأبنائه.
يشير حميد إلى أن الفتح الحقيقي لا يأتي بالسلاح بل عبر المعرفة وتنوير العقول:
الفتح نيران في خيو
يمه أخير يفتح كتابو
ـ هنا يدعو الشاعر إلى نشر العلم وتحرير الأفكار من الجهل معتبراً أن العلم هو الضوء الذي سيبدد الظلام ويقود إلى النهضة المنشودة.
يرسم الشاعر مشهدًا مؤثرًا للعودة إلى الوطن عندما يقول :
كل طاير فر يرجع
للعشيش المرة سابو ..
ـ هذه الصورة توضح حالة المهاجرين والمغتربين الذين غادروا الوطن لكن قلوبهم لا تزال مرتبطة به ويوحي ذلك بأهمية إعادة هؤلاء الطيور المهاجرة إلى وطنهم لبنائه بأفكارهم وخبراتهم.
يؤكد الشاعر على شباب الوطن كطاقة متجددة مليئة بالعطاء والأمل :
البلاد في صباها لسة
والوطن في عز شبابو ..
ـ إن هذا التصوير الجميل يعبر عن قدرة السودان على النهوض من جديد لأنه لا يزال في ريعان شبابه وأمام مستقبل واسع.
يتحدث حميد عن أصالة الشعب السوداني وعزيمته الراسخة مستدعياً رمز نهر النيل كشاهد على استمرارية الحضارة السودانية رغم كل المحن :
أسألوا النيل شيمة شيمة
طول جريفاتو وضفافو ..
ـ النيل هنا ليس مجرد نهر، بل رمز للتحدي والصمود الذي يجب أن يتصف به كل سوداني يسعى لبناء وطنه.
يمتدح الشاعر الإرادة الصلبة لشعب لا يعرف الهزيمة، حيث يقول :
أمة ما بنعرف هزيمة
لا انكسارات لا خلافو ..
ـ هنا يتحدث عن التحديات المتواصلة التي واجهها الشعب السوداني وكيف استطاع أن يتغلب عليها بعزيمة لا تنكسر.
يختم الشاعر قصيدته بصورة رمزية بليغة مشبهاً الوطن بدفتر عزيمة وغلافه جلود أبنائه السمر :
والوطن دفتر عزيمة
ويوت جلودنا سمر غلافو
والعلينا قليبو ديمة
حقو فيهو الله نخافو ..
ـ هذا الختام العميق يشير إلى أن العزيمة والصبر هما ما سيصنع مجد السودان وأن كل تضحية لأجل الوطن يجب أن تكون بنية صافية ومخافة من الله.
نجح محمد الحسن سالم حميد في (السلام ملح المشاعر) في تقديم رؤية متكاملة لقضايا الوطن بلغة عامية راقية تحمل جماليات التعبير وروعة التصوير والكلمات تعبر عن حلم الشعب السوداني في وطن يسوده السلام وتحترم فيه الديمقراطية وتقدر فيه المعرفة.
إنها رسالة مفتوحة إلى الجميع بأن الأمل لا يموت وأن السودان سيظل دائماً قادراً على النهوض إذا تمسك أبناؤه بالعزيمة والعمل الصادق.