مقالات وآراء

اللاجئون السودانيون في مصر،، جرح فوق جرح ..!!؟؟

د. عثمان الوجيه

 

في أرض الكنانة، مهد الحضارات وبلد الأمن والأمان، حلت أفواج من المستضعفين، فارين بجلودهم من أتون حروب مزقت أوطانهم وأزهقت أرواح أحبتهم، كانوا لاجئين، يحملون على أكتافهم ثقل الذكريات الأليمة وآمالاً ضئيلة بغدٍ أفضل، من بين هؤلاء، استقر مئات الآلاف من أنفس أنهكها التعب وأضناها المرض، وجدوا في مصر ملاذاً آمناً ورعاية صحية تسكن أوجاعهم وتخفف من معاناتهم، كانوا يتلقون العلاج لأمراض مزمنة فتكت بأجسادهم، كالسرطان الذي ينهش الخلايا، والسكري الذي يفتك بالأعضاء، وارتفاع ضغط الدم الذي يهدد الشرايين، وأمراض القلب التي تضعف النبض، ولكن، كما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، هبت رياح قاسية حملت معها قراراً مؤلماً، أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي الجهة التي كانت ترعى شؤونهم الصحية، عن تعليق مساعداتها الطبية، صدى الخبر وقع كالصاعقة على قلوبهم المنهكة، تحدثت باسم المفوضية من جنيف، بصوت يخلو من البشارة، معلنة أن شح الموارد والتخفيضات الحادة في التمويل لم يعد يسمح للمنظمة بتمويل الرعاية الصحية إلا في الحالات الطارئة التي تهدد الحياة بشكل مباشر، أما آلامهم المزمنة وأوجاعهم المستمرة، فقد تركت لمصير مجهول، كان اللاجئون السودانيون يشكلون الشريحة الأكبر من المتضررين، هم الذين فروا بأرواحهم من جحيم حرب ضروس اندلعت في بلادهم منذ الخامس عشر من أبريل عام ألفين وثلاثة وعشرين، حرب لا تزال رحاها تدور بين الجيش النظامي وميليشيات الدعم السريع المتمردة، حرب شردت الملايين وقتلت الآلاف، وحولت أرض السودان الخضراء إلى يباب قاحل، لقد حمل هؤلاء اللاجئون جراح الحرب العميقة، جراح فقد الأحبة والديار والذكريات، وها هم اليوم يواجهون جرحاً آخر، جرحاً في أجسادهم المريضة التي تحتاج إلى الدواء والرعاية، يعود هذا القرار المؤسف إلى انخفاض التمويل الدولي، وهو نتاج طبيعي لتقليص الدول الكبرى لمساعداتها الخارجية، الولايات المتحدة، التي كانت يداً معطاءة في دعم جهود الإغاثة ومكافحة الأمراض، قلصت من مساهماتها، مما أدى إلى خسائر فادحة في التمويل المقدم للمراكز الصحية والحكومات الإقليمية في أفريقيا، والتي كانت تعتمد على هذه المساعدات في تقديم العون للمحتاجين، هكذا وجد هؤلاء اللاجئون أنفسهم في مهب الريح مرة أخرى، بعد أن فروا من الموت المحقق في بلادهم، يواجهون اليوم شبح المرض الذي يهدد حياتهم في ملاذهم الجديد، قصة تدمي القلوب، وتجسد مرارة اللجوء وقسوة الظروف التي يواجهها المستضعفون في عالم يعاني من تقلبات السياسة وشح الموارد، جرح فوق جرح، يئن منه جسد اللاجئ وروحه .. هنا تحضرني طرفة فليسمح لي القارئ الحصيف بأن أوجزها في هذه المساحة وبهذه العجالة وهي:- في خضم الأحداث الجسام التي عصفت بوطني السودان، ومنذ الخامس عشر من أبريل لعام ألفين وثلاثة وعشرين، اشتعلت نيران حرب ضروس بين جيشنا الوطني وتلك الميليشيا المتمردة التي أطلقت على نفسها اسم “الدعم السريع !!” لهيب هذه الحرب لم يرحم شيئًا، فقد أزهقت أرواح الآلاف، وشردت الملايين من ديارهم الآمنة، وحولت أرضنا الخضراء إلى يباب قاحل، كانت لي قريبة، كغيرها من أبناء وطني، قد أجبرتها قسوة الظروف على النزوح والتنقل بين ربوع السودان لشهور طويلة، تحمل في طياتها مرارة الفقد والخوف، وفي نهاية المطاف، لم تجد ملجأً سوى مصر، تلك الأرض التي اخترتها أنا قبل سنوات لتكون منفاي الاختياري، لأسباب أخرى لا تمت لهذه المأساة بصلة، بعد أن استقرت أوضاعها قليلًا تحت مظلة مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مصر، والتي كفلت لها حق الإقامة على أرض الكنانة ووفرت لها ولعائلتها مبلغًا زهيدًا يقدر بسبعين دولارًا كل شهرين، وجهت إليّ سؤالًا بسيطًا وعفويًا : “كم تقبض؟”، حينها، أدركتُ حجم الهوة بين تجربتي وتجربتها، فسارعتُ لتوضيح الفرق الشاسع بين وضع اللاجئ السياسي الذي أحمله أنا، ووضع اللاجئ الإنساني الذي اضطرت هي إليه، لم يمضِ وقت طويل حتى هاتفتني مرة أخرى، مبشرةً بحصولها وعائلتها على منحة شتوية من المفوضية تقدر بنحو ثلاثمائة دولار، وكررت سؤالها الأول : “كم قبضت؟”، أجبتها بالإجابة ذاتها، وأعدتُ شرح الفارق بين حالتي وحالتها، وأوضحتُ لها أن طلبي للجوء السياسي كان بصفتي صحفيًا أعزبًا يتمتع بصحة جيدة، بينما هي لجأت طلبًا للنجاة من أتون الحرب، كامرأة ربة منزل مسؤولة عن أطفال، لم تتوقف تساؤلاتها عند هذا الحد، بل استفسرت قائلة : “لماذا استعنت بالمنظمة وماذا تستفيد منها؟”، أجبتها بصراحة: “لقد حصلتُ بفضلها على الحماية الدولية، وحصلت على التوطين في كندا”، سألتني بلهفة: “ومتى ستسافر؟”، أجبتها بصدق : “عندما يعم السلام أرجاء العالم”، استغربت كلماتي وسألت: “لماذا؟”، فأوضحت لها الأمر ببساطة : “الدول المانحة والمستضيفة لن تستمر في دعم الحروب وإعمار الخرائب واستضافة مواطنين جدد في ظل هذه الظروف، لذلك، بدأ الشح يظهر جليًا من الدول الغنية، التي أوقفت برامج التوطين وقللت بشكل كبير من النفقات المخصصة لدول ومراكز إيواء اللاجئين والمنكوبين من الكوارث وغيرها .

” Donor and host countries will not continue to support wars, rebuild ruins, and host new citizens under these circumstances. Therefore, scarcity has begun to appear clearly in rich countries, which have halted resettlement programs and significantly reduced expenditures allocated to countries and centers for sheltering refugees and those affected by disasters and others

وعلى قول جدتي:- “دقي يا مزيكا !!”.

خروج:- “غدر في جوبا: نذر حرب جديدة !!” ففي قلب العاصمة جوبا، وبينما كانت سماء جنوب السودان لا تزال تحمل آثار نزاعات الماضي، اهتزت أركان الدولة الوليدة بخبرٍ نزل كالصاعقة، ففي يوم الأربعاء المشؤوم، اقتحمت قوة مسلحة قوامها عشرون مركبة مدججة بالسلاح مقر إقامة النائب الأول للرئيس، رياك مشار، الخصم اللدود للرئيس سلفا كير، لم يكن الاقتحام مجرد انتهاك لحرمة منزل مسؤول رفيع، بل كان تعديًا سافرًا على أسس الدولة الهشة، فبأوامر من وزير الدفاع ورئيس الأمن الوطني، جُرِّد الحراس الشخصيون للنائب الأول من أسلحتهم، بينما صدرت بحقه مذكرة توقيف تلفها شبهات التهم الغامضة، سرعان ما دوى صوت حزب مشار، معلنًا إدانته الشديدة لهذه الإجراءات “غير الدستورية”، واصفًا إياها بالخطوة التي تنذر بعواقب وخيمة على مستقبل البلاد، وفي خضم هذا التوتر المتصاعد، لم تتوان بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (يونميس) عن إطلاق صيحة فزع مدوية، فقد حذرت البعثة بلسانٍ قاطع من أن هذا العمل المتهور يضع البلاد “على شفا حرب”، داعية جميع الأطراف إلى التحلّي بأقصى درجات ضبط النفس وتغليب صوت العقل والحكمة على نزعات الصراع والفتنة، هكذا، وفي يومٍ واحد، تحولت سماء جوبا من سكون حذر إلى غيوم داكنة تنذر بعاصفة جديدة، تُعيد إلى الأذهان ذكريات أليمة لحروب أهلية مزقت أوصال هذا الوطن الطموح، فهل يستجيب قادة جنوب السودان لنداء العقل ويتجنبون الانزلاق إلى هاوية جديدة من الدماء والدمار؟ أم أن شبح الحرب سيخيم مرة أخرى على هذه الأرض المثقلة بالجراح؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة..

#أوقفوا – الحرب

ولن أزيد،، والسلام ختام.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..