مسرح اللامعقول السياسي

د. محمد حمد مفرح
٢/٢
وفقا لما أشرت اليه في ختام الحلقة الأولى من هذا المقال، فان الفريق الذي يسعى لاجهاض التحول الديموقراطي ظل بستميت في التعامي عن الحق وانكار المنطق وقلب الحقائق رأسا على عقب مع الاصرار على المضي قدما في هذا السلوك الهدام، الأمر الذي قاد الى انسداد أفق الحل السياسي لأزمة البلاد الماثلة. وبالنظر الى التجارب السياسية في الكثير من دول العالم، تلك التجارب التي تؤكد على سعة أفق القوى السياسية بهذه الدول وتعاطيها السياسي البناء عبر تقديم التنازلات الضرورية Necessary compromises وتقديم مصلحة الوطن على كل ما عداها من مصالح، بالنظر الى ذلك يتضح لنا مدى خطل موقف الساعين لاجهاض التحول الديموقراطي ببلادنا، ومجافاته للحكمة والعقلانية. كما يعكس هذا الموقف حالة الجمود والطفولة السياسية Stagnancy & political childhood غير المتبصرة وغير المنفتحة على تجارب الدول الأخرى للاستفادة منها.
من جانب اخر، تتجلى غرائب مسرح اللامعقول أكثر من خلال تصريحات مسؤولي الحكومة الانقلابية الحالية بالسودان بأنهم بصدد تكوين حكومة فترة انتقالية من تكنوقراط يكون من ضمن مهامها الإعداد لانتخابات حرة ونزيهة. وتطرح هذه التصريحات، دون ريب، سؤالا مهما يحمل في ثناياه منطقه الداخلي المتماسك، ويتمثل في: هل يعقل أن تكون الحكومة الانقلابية مؤهلة لاجراء انتخابات حرة ونزيهة بمعنى الكلمتين، تفضي الى حكومة ديموقراطية معافاة في حين أنها انقلبت على الحكومة الانتقالية التي أتت بها الثورة؟!! هل من المنطق أن يتم هذا المسعى بكل تجرد وأمانة بدءا من تكوين حكومة التكنوقراط المشار إليها وانتهاءا باجراء الانتخابات، بالقدر الذي يقود الى ديموقراطية حقة، أم أن وراء الأكمة ما وراءها، كما يقولون؟. وهل، أصلا، سوف تتهيأ الظروف ويحدث استقرار سياسي Political stability يمكن من اجراء انتخابات في ظل حكومة تكنوقراط تأتي بها حكومة انقلابية وحالة استقطاب حاد وغير مسبوق، مع ترتيبات سياسية ربما يفرزها العقل السياسي للمنتصر، ولو جزئيا، للحرب؟!!! .
قطعا سوف يذهب الناس مذاهب شتى في اجاباتهم على هذه الأسئلة و ذلك بحكم درجات وعيهم وتباين منطلقاتهم السباسية والفكرية وغيرها. ومع ذلك تؤكد البداهة وطبيعة الأشياء المتسقة مع العقلانية على أنه لا يعقل أن يكون من انقلب على التحول الديموقراطي Democratic transition مؤهلا لخلق وتهيئة ظروف صحية ومواتية تعين على اجراء انتخابات حقيقية تفضي الى حكومة ديموقراطية معافاة. هل يستقيم الظل والعود أعوج؟!!!.
بالطبع لا. ومن المعلوم أنه، ووفقا لمنطق الأشياء، فان فاقد الشيء لا يعطيه.
إذن ما هو السبب وراء مضى الحكومة الانقلابية، كما يؤكد واقع حالها، في مسعاها لتكوين حكومة تكنوقراط يناط بها، ضمن مهام أخرى، الترتيب لاجراء انتخابات؟. في اعتقادي أن الأمر واضح وضوح الشمس في كبد النهار، ويتمثل، خلافا لزعم هذه الحكومة، في اجراء انتخابات تتدثر بالحربة والنزاهة المفترى عليهما ولا علاقة لها بهما. وهذا يعني أن الحكومة تتوسل بحرية ونزاهة زائفتين، ظاهرهما ديموقراطي في حين أن أساسهما غير ذلك.
قد يقول قائل أن بامكان هذه الحكومة، بدلا من ذلك، أن تتحول الى حكومة شمولية أو أوتوقراطية Autocratic Government سافرة وتفرض سيطرتها بحد السيف. و مع ذلك فان المنطق السليم يقول أن هذا المسعى محفوق بالمخاطر التي لا تخفي على الحكومة. فالظروف الاقليمية و الدولية بل وحتى الداخلية بالبلاد لا تساعد على الحكم الشمولي Totalitarian rule نظرا لكلفته العالية. وهذا، في اعتقادي، هو ما يدفع الحكومة الى اختيار طريق الديموقراطية الزائقة دون أن تخضع هذا الخيار، كما يبدو، للتفكير العميق والبحث الهادف الى التعرف على جدواه من عدمها. وبالقطع إذا توافرت لهذه الحكومة الأهلية الفكرية وأخضعت هذا الخيار للتشريح، لتبين لها أنه ينطوي على خطورة ليس أقلها عدم الاستقرار السياسي بالبلاد، والذي سينشأ عن موقف داعمي الديموقراطية الحقيقية من مثل هكذا خيار.
صفوة القول أن مسرح اللامعقول المتجلي والمعبر عن نفسه في الساحة السياسية ببلادنا، وفقا لما ذهبت اليه في حلقتي المقال، يمثل تحديا مدمرا له ما بعده. و يذكرني هذا الوضع بمقولة جورج أورويل، مؤلف كتاب Animal Farm (مزرعة الحيوان)، والتي تقول ترجمتها (السياسيون كالقرود في الحقل، إذا اتفقوا أكلوا المحصول و إذا اختلفوا أتلفوا الزرع). و بالطبع هنالك سياسيون لا ينطبق عليهم هذا القول نظرا لتعاطيهم السياسي الأخلاقي والوطني. ومن المؤكد أن هذا الخيار، أي خيار الديموقراطية الزائفة، سيقود الى ما لا تحمد عقباه، ولا يمكن التكهن بصيرورته، ما لم يقيض الله لهذه البلاد عقلا سياسيا راشدا يعيد أعداء الديموقراطية الى رشدهم.