سِفْرُ الذّاكِرَةِ وَهَوِيَّةِ الأُمَمِ : التّاريخُ وَثَوْرَةُ الوُجُودِ

زهير عثمان حمد
في عَالَمٍ يَسْعَى بِجَارِفَةِ الحَاضِرِ لِطَمْسِ آثَارِ المَاضِي، يَخْطُو التّاريخُ خُطَى الوَاعِظِ الحَكِيمِ، حَامِلًا مِشْعَلَ الحِكْمَةِ لِيُنِيرَ دَرْبَ المُسْتَقْبَلِ. لَيْسَ التّاريخُ سِجِلًّا مُغَبَّرًا لِأَحْدَاثٍ انْطَوَتْ، بَلْ هُوَ نَسِيجٌ حَيٌّ تَتَشَابَكُ فِيهِ خُيُوطُ الهُوِيَّةِ وَالِانْتِمَاءِ، وَرَحِمٌ تَحْمِلُ أَجِنَّةَ الحَضَارَاتِ لِتَلِدَهَا أَمَامَ أَعْيُنِ الأَجْيَالِ. فِي هَذَا السِّيَاقِ، يَتَجَلَّى مَقَالُ الدُّكْتُورِ أَحْمَدَ إبْرَاهِيمَ أَبُوشُوكَ كَنَدَاءٍ وَعْيٍ يُطَالِبُ بِاسْتِنْبَاتِ رُوحِ الحِفَاظِ عَلَى الذّاكِرَةِ الجَمَاعِيَّةِ، لِتَكُونَ شَاهِدَةً عَلَى عَظَمَةِ الإِنْسَانِ وَصِرَاعِهِ مَعَ الزَّمَنِ.
المَكْتَبَةُ الكُبْرَى : دَارُ الوَثَائِقِ القَوْمِيَّةِ بَيْنَ الأَمْسِ وَالْيَوْمِ
مُنْذُ أَنْ نَبَتَتْ بُذُورُهَا الْأُولَى فِي عَامِ ١٩١٦م ، وَدَارُ الوَثَائِقِ تَنْهَضُ كَصَرْحٍ وَرِثَاءٍ لِلتَّرَاكُمِ الحِضَارِيِّ، لَمْ تَكُنْ مَجَرَّدَ خَزَانَةِ أَوْرَاقٍ، بَلْ مَشْبَكَةَ أَسْلاَكٍ تَصِلُ المَاضِيَ بِالحَالِ. يَسْرُدُ أَبُوشُوكَ مَرَاحِلَ تَطَوُّرِهَا بِعَيْنِ الحَارِسِ الْوَفِيِّ، مُبَيِّنًا كَيْفَ تَحَوَّلَتْ مِنْ مَكَانٍ لِحِفْظِ المَخْطُوطَاتِ إِلَى مَرْكَزٍ لِلإِشْعَاعِ العِلْمِيِّ، حَيْثُ تَتَجَدَّدُ الأَرْقَامُ وَالحُرُوفُ لِتُصْبِحَ حَدِيثًا يُحَاكِي الأَحْلامَ. فَالوَثِيقَةُ هُنَا لَيْسَتْ وَرَقَةً تَأْكُلُهَا الأَيَّامُ، بَلْ شَاهِدٌ عَلَى حَرَكَةِ الوُجُودِ الإِنْسَانِيِّ، وَعُبُورِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الجَهْلِ إِلَى نُورِ المَعْرِفَةِ.
التِّكْنُولُوجْيَا وَالحِفَاظُ عَلَى الرُّوحِ : مُوَاءَمَةٌ بَيْنَ الأَصَالَةِ وَالْمُعَاصَرَةِ
لَوْ أَنَّ الحِفَاظَ عَلَى التّاريخِ كَانَ مِجَرَّدَ تَقْدِيسٍ لِلْغُبَارِ، لَصَارَ التّرَاثُ سِجْنًا لِلذّاكِرَةِ. لَكِنَّ الرُّؤْيَةَ الانْفِتَاحِيَّةَ الَّتِي يَدْعُو إِلَيْهَا الكَاتِبُ تَنْطَلِقُ مِنْ فَهْمٍ وَاعٍ : أَنَّ التِّكْنُولُوجْيَا لَيْسَتْ عَدُوًّا لِلْمَاضِي، بَلْ جِسْرًا يُعَاصِرُهُ. فَعَمَلِيَّاتُ الرَّقْمَنَةِ وَالأَرْشَفَةِ الذَّكِيَّةِ لَيْسَتْ إِلاَّ تَطْوِيرًا لِوَسَائِلِ الحِفَاظِ، تَحْمِي الكَلِمَاتِ مِنْ سَرِقَةِ الزَّمَنِ وَانْتِهَاكِ النِّسْيَانِ. هَكَذَا تَتَحَوَّلُ الوَثِيقَةُ إِلَى رَمْزٍ قَابِلٍ لِلتَّجْدِيدِ، وَالمَعْلُومَةُ إِلَى نُبْضٍ يَخْترِقُ الحُدُودَ، فَتُصْبِحُ الذّاكِرَةُ الجَمَاعِيَّةُ مِيرَاثًا لِلْعَالَمِ، لَا لِشَعْبٍ وَاحِدٍ.
الجِسْرُ الذَّهَبِيُّ : التّاريخُ مَعْبَرًا لِلْمُسْتَقْبَلِ
لَا يَكْتَفِي أَبُوشُوكَ بِدَعْوَةِ الحِفَاظِ، بَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ نِدَاءً لِتَحْوِيلِ التّرَاثِ إِلَى وَقُودٍ لِلْبَحْثِ العِلْمِيِّ، فَيُصْبِحُ المَاضِي مِفْتَاحًا لِفَهْمِ الحَالِ، وَالحَالُ مَدْخَلًا لِاسْتِشْرَافِ المُسْتَقْبَلِ. هَذَا الجِسْرُ لَيْسَ مَبْنِيًّا مِنْ أَحْجَارٍ، بَلْ مِنْ أَسْئِلَةٍ تَطْرَحُهَا الأَجْيَالُ: مَنْ كُنَّا؟ وَإِلَى أَيْنَ نَسِيرُ؟ فَكُلُّ وَثِيقَةٍ مُحَافَظٍ عَلَيْهَا هِيَ إِجَابَةٌ تَنْبُتُ فِي تَرْبَةِ الوَعْيِ، تُثْمِرُ هُوِيَّةً وَاثِقَةً، وَعِلْمًا يَبْنِي لُغَتَهُ مِنْ صَمْتِ الأَسْفَارِ.
حَارِسُ الذّاكِرَةِ
فِي زَمَنِ العَوْلَمَةِ، حَيْثُ تَتَآكَلُ الخُصُوصِيَّاتُ فِي بَوْطِقَةِ التَّكْرَارِ، يَبْقَى أَمْثَالُ الدُّكْتُورِ أَبُوشُوكَ حُرَّاسًا لِلسَّرِدِيَّةِ الكُبْرَى الَّتِي تَحْمِلُ أَسْرَارَ الأُمَّةِ. لَيْسَ الْوَفَاءُ لِلتّاريخِ إِلاَّ وَفَاءً لِلذّاتِ، فَكَمَا تُحَافِظُ الوَثِيقَةُ عَلَى حَرْفِهَا، تُحَافِظُ الأُمَمُ عَلَى كِيَانِهَا. وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ، بَلْ رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ مُنْتِشٍ بِضَجِيجِ الحَاضِرِ: اِنْظُرْ إِلَى الوَرَاءِ لِتَرَى مَدَى اتِّسَاعِ الأُفُقِ، فَالْحَقِيبَةُ الَّتِي تَحْمِلُهَا إِلَى المُسْتَقْبَلِ لَنْ تَكْتَمِلَ إِلاَّ بِذِكْرَى مَنْ مَضَوْا.