الفاشر : مدينة تحت وطأة الجوع والحصار” ..!!؟؟؟

د. عثمان الوجيه
في قلب إقليم دارفور، حيث تمتد السهول الشاسعة وتعانق السماء الزرقاء، تقبع مدينة الفاشر، عاصمة ولاية الشمال، تحت سحابة قاتمة من الخوف والجوع، لم تعد شوارعها تعج بالحياة الصاخبة، ولا أسواقها تضج بالباعة والمشترين، بل خيم عليها صمت ثقيل، لا يقطعه إلا أنين الجوعى وأصوات القذائف البعيدة، ستة أشهر مضت والفاشر ترزح تحت حصار خانق فرضته “مليشيا الدعم السريع المتمردة”، لتتحول المدينة تدريجياً إلى سجن كبير، تتلاشى فيه مقومات الحياة، نفدت المؤن، وارتفعت الأسعار إلى مستويات خيالية، حتى بات رغيف الخبز حلماً بعيد المنال بالنسبة للكثيرين، هجرت مئات الأسر منازلها بحثاً عن ملاذ آمن، تاركين خلفهم ذكرياتهم وأشياءهم القليلة، متجهين نحو مناطق أخرى في الإقليم، علّهم يجدون فيها ما يسد رمقهم ويحقن دماءهم، لكن حتى تلك المناطق لم تسلم من وطأة الأزمة، فالجميع يئن تحت ثقل الحاجة ونقص الغذاء، يصف سكان الفاشر الوضع بكلمات موجعة: “سيئ للغاية… تكلفة شراء المواد الغذائية باتت مرتفعة جداً … المتوفر قليل جداً … ليس بمقدور الكثيرين الحصول عليه”، يأس يلفظه العالقون، الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه : “لم يبق أمامنا غير مغادرة المدينة، لا نملك المال لشراء ما يسد حاجاتنا من الطعام”، حتى السلع الأساسية، كالخبز والأرز والسكر، تضاعفت أسعارها، لتكشف عن عمق المأساة التي يعيشها الأهالي، كانت المدينة تعتمد على تدفق البضائع عبر التجار، لكن العمليات العسكرية الدائرة بين الجيش وحلفائه من جهة، و”مليشيا الدعم السريع المتمردة” من جهة أخرى، حولت طرق التجارة إلى مسالك خطرة، وأغلقت شرايين الإمداد، تتحدث الجهات المسؤولة عن تحديات جمة، في مقدمتها النقص الحاد في الغذاء ومياه الشرب، نتيجة للحصار الممتد، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، يعبر النشطاء عن قلقهم البالغ، واصفين الأوضاع الإنسانية بالكارثية، لم يسلم القطاع الصحي أيضاً، فقد طال الدمار المرافق الصحية بالقصف المدفعي، لتزداد الحاجة الملحة إلى الأدوية والمستلزمات الطبية لمواجهة الأمراض والإصابات التي يتعرض لها المدنيون، استقبلت بعض المحليات الآمنة في شمال دارفور أعداداً كبيرة من النازحين الفارين من جحيم الفاشر ومعسكر زمزم، لكنهم يواجهون أوضاعاً قاسية، يعيشون في العراء، بلا مأوى ولا غذاء كاف، ومع تفاقم الأوضاع الأمنية، قلصت المنظمات الإنسانية والطبية الدولية وجودها في المنطقة، لتترك المدنيين يواجهون مصيرهم المحتوم بمفردهم، حتى محاولات الجيش السوداني لإيصال المساعدات عبر الإسقاط الجوي لم تسلم من الخطر، حيث تتعرض الطائرات للاستهداف، وفي المقابل، كثفت “مليشيا الدعم السريع المتمردة” من قصفها المدفعي العشوائي على الفاشر ومخيمات النازحين، مخلفة وراءها عشرات القتلى والجرحى، الفاشر، المدينة التي تؤوي أكثر من نصف مليون نسمة، باتت رمزاً لمعاناة إقليم دارفور بأكمله، ففي أغسطس من العام الماضي، أعلنت الأمم المتحدة عن تفشي المجاعة في أجزاء من ولاية الشمال، وخاصة في مخيم زمزم، بسبب العراقيل التي يضعها طرفا النزاع أمام وصول المساعدات الإنسانية، وناشد مجلس الأمن الدولي “مليشيا الدعم السريع المتمردة” إنهاء الحصار والسماح بمرور آمن للمدنيين، لكن النداءات لم تجد آذاناً صاغية، السودان، الذي كان يوماً مرشحاً ليصبح سلة غذاء العالم، يئن اليوم تحت وطأة حرب ضروس، مستمرة منذ الخامس عشر من أبريل عام ألفين وثلاثة وعشرين، حرب شردت الملايين، وقتلت الآلاف، وقضت على الأخضر واليابس، والفاشر، المحاصرة والمجوعة، هي مجرد فصل مؤلم في هذه القصة المأساوية، شاهد حي على وحشية الصراع وتبعاته المدمرة على الإنسان والأرض.. هنا تحضرني طرفة فليسمح لي القارئ الحصيف بأن أوجزها في هذه المساحة وبهذه العجالة وهي:- “مرارة المنفى ودمعة على وطن ضائع !!” فمنذ الخامس عشر من أبريل عام ألفين وثلاثة وعشرين، والسودان ينزف حرباً ضروساً، حرباً لا تبقي ولا تذر، حرباً ضروساً بين جيشنا الوطني وتلك الميليشيا المتمردة التي عصفت بأخضر ويابس بلادي، طوال هذه الحقبة المرة، عشت أنا، مثلي كمثل الكثيرين، مرارة المنفى الاختياري، لكن قلبي وروحي ظلا معلقين بالوطن الجريح، كم مرة تلقيت فيها مكالمة هاتفية أو لقيت وجهاً مهموماً في غربتي هذه، وكل حكاية كانت وخزاً أليماً في خاصرتي، وكل من يقول لي: “احتسبت قريبي يا فلان”، “شردت أسرتي وأنا أبحث عن مأوى”، “نزحت في الداخل أتقلب بين الخيام والمدارس”، “لجأت إلى الخارج أقتات على فتات الغربة”، “سرقوا منزلي، نهبوا سيارتي، ضاعت مدخرات عمري”، “فقدت وظيفتي، وتوقف رزقي”، “ضاع مستقبل أبنائي في التعليم، وتبخرت أحلامهم”، لكل منهم كنت أرد بكلمات عليلة، أحاول أن أزرع في قلوبهم بعض الصبر والرجاء، كنت أقول لهم بصوت خفيض، يحمل وجعاً مشتركاً: “يا أخي، يا أختي، لا تنظر لنفسك وحدك في هذه المحنة، انظر إلى السودان الذي ضاع منا، الذي دمر كل شيء فيه، حتى تلك الأرض الطيبة التي كانت تفيض بالخير والعطاء”، كثيراً ما كان حديثي هذا يثير استغرابهم، بل و اعتراضهم، كانوا يسألونني بلهفة : “كيف تدمر الزراعة يا أستاذ؟ الأرض باقية، وبعد انتهاء الحرب واستقرار الأوضاع، سيعود الناس إلى حقولهم ويزرعون من جديد، وسيعود السودان كما رشح، سلة غذاء العالم”، لكني كنت أهز رأسي بأسى، وأقول لهم فلسفتي التي تشكلت عبر سنوات من التأمل في أحوال البلاد والعباد، كنت أقول لهم: “يا أحبتي، معظم الذين نزحوا عن ديارهم في الداخل، أو لجأوا إلى بلاد أخرى، لن يعودوا قريباً، بل أخشى أن أقول لن يعودوا نهائياً”، وكنت أشرح لهم رؤيتي القاتمة، قائلاً : “السودان يحتاج إلى إعمار شامل بعد هذه الحرب المدمرة، والشباب، أبناء المزارعين الذين عانوا مرارة النزوح والفقر، سيرون بأعينهم كيف ضاعت أجيالهم وهم متعلقون بأرض لم تعد تدر عليهم ما يكفيهم، والطبيعي في هذه الحالة أن يهجروا مهنة آبائهم، وأن يبحثوا عن فرص أخرى بأقل مجهود وأكثر دخلاً، ربما في المدن التي نمت عشوائياً حول مخيمات النزوح، أو في تلك البلدان التي استقبلتهم كلاجئين”، ثم كنت أختم حديثي بنبرة حزينة، قائلاً: “عندها سيتحول شعار ‘السودان سلة غذاء العالم’ إلى مجرد ذكرى باهتة، قصة تروى للأجيال القادمة عن زمن ولى، وعن أرض خصبة لم يعد يحرثها أبناؤها”، هكذا أعيش أيامي في منفاي، أواسي قلوباً موجوعة، وأشاركهم مرارة الفقد، لكن في أعماقي حزن عميق على وطن يتلاشى أمام عيني، وعلى حلم بتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي يتبخر في سماء الحروب والنزاعات
This is how I live my days in exile, comforting aching hearts and sharing the bitterness of loss with them. But deep within me is a deep sadness for a homeland that is fading before my eyes, and for a dream of achieving self-sufficiency and food security that is evaporating in the skies of wars and conflicts
وعلى قول جدتي:- “دقي يا مزيكا !!”.
خروج:- “رياح الحمائية تعصف بالاقتصاد العالمي !!” ففي يوم من أيام الربيع، وبينما كانت الشمس تتسلل بخجل بين أوراق أشجار حديقة الورود في البيت الأبيض، أطل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقرارات هزت أركان الاقتصاد العالمي، أعلن عن فرض رسوم جمركية إضافية متبادلة، وصفها بـ “اللطيفة”، لكنها في حقيقتها كانت بمثابة عاصفة هوجاء أثارت مخاوف المستثمرين وأشعلت فتيل القلق في أسواق المال، لم تستثنِ هذه الرسوم، التي جاءت لتضاف إلى أخرى أساسية مفروضة سلفًا، حلفاء الولايات المتحدة قبل خصومها، لتشكل بذلك أوسع حزمة من الرسوم الجمركية تطبقها البلاد منذ عقود طويلة، وفي كلمته المسائية الأربعاء الماضي، حاول الرئيس التقليل من شأن هذه الإجراءات، واصفًا إياها بأنها “رسوم متبادلة مخفضة”، زاعمًا أنها لا ترقى إلى مستوى الرسوم التي تفرضها دول أخرى على البضائع الأمريكية، إلا أن هذه التصريحات لم تخفِ حقيقة أن هذه الحزمة الجديدة تمثل الموجة الأكبر في سلسلة من الإجراءات الحمائية التي تبنتها الإدارة الأمريكية، ففي الأشهر الأولى من ولايته، لوّح ترامب بسيف الرسوم الجمركية على قطاعات واسعة، بدءًا بواردات السيارات بنسبة 25%، مرورًا برسوم إضافية على الواردات الصينية بنسبة 10%، وصولًا إلى رسوم على الصلب والألومنيوم بنسبة 25%، وحتى على جميع المنتجات القادمة من كندا والمكسيك خارج نطاق اتفاقية التجارة الحرة الجديدة، وما هي إلا ساعات قليلة حتى دخلت الرسوم الجمركية المتبادلة الإضافية حيز التنفيذ الفوري، ليتبعها في اليوم التالي سريان الرسوم على السيارات، وسرعان ما نشرت مجلة “نيوزويك” قائمة بالدول المتأثرة، مُرتبة من الأعلى إلى الأدنى من حيث الرسوم التي تفرضها على الولايات المتحدة، مع مقارنتها بالرسوم المتبادلة الجديدة، وكشفت القائمة عن مفارقة لافتة؛ فالدول الستين الأولى في الترتيب كانت تفرض رسومًا تتجاوز نسبة الـ 10%، بينما فُرض على بقية الدول، ومن ضمنها السودان، الحد الأدنى من الرسوم المتبادلة بنسبة 10%، وشملت هذه المجموعة الأخيرة دولًا تنقسم إلى فئتين : الأولى تفرض على الواردات الأمريكية رسومًا بنسبة 10%، والثانية تفرض نسبًا أعلى من ذلك،أما الدول التي كانت تفرض رسومًا أعلى من 10%، فقد تصدرت القائمة دول مثل أفغانستان ونيوزيلندا وبوليفيا وأوغندا وكوستاريكا وغانا وبابوا غينيا الجديدة وسانت هيلينا والإكوادور وترينيداد وتوباغو، وفي المقابل، تساوت الرسوم الجمركية المتبادلة عند نسبة 10% مع دول أخرى عديدة، من بينها قوى اقتصادية كبرى مثل المملكة المتحدة والبرازيل وسنغافورة وأستراليا وتركيا، بالإضافة إلى دول عربية مثل الإمارات والسعودية والمغرب، كما شملت القائمة مجموعة واسعة من الدول من مختلف القارات، مما يعكس النطاق الواسع لتأثير هذه الإجراءات الحمائية الجديدة، هكذا، ألقت رياح الحمائية التي أطلقها الرئيس ترامب بظلالها القاتمة على المشهد الاقتصادي العالمي، مُذكرةً بتقلبات السياسات التجارية وتأثيرها العميق على العلاقات الدولية ومصالح الدول، وبقي السؤال معلقًا : إلى متى ستستمر هذه العاصفة، وما هي التداعيات النهائية التي ستخلفها على خريطة التجارة العالمية؟ .
#أوقفوا ـ الحرب
ولن أزيد،، والسلام ختام.