استراحة فى زمن الحرب من صندوق مغامرات العسكر..!

د. محمد عطا مدنى
ياعبد السلام .. الشعراء لا يحالون إلى المعاش..!
فى عام 2005م اختيرت الخرطوم عاصمة للثقافة العربية، بحثت حكومة (الإنقاذ) وقتئذ، عن أديب سوداني كبير يستقبل زوار البلاد من الأدباء والشعراء والمسؤولين، عربا وأجانب، لأن هذه المناسبة لا تأتى إلا نادرا (وقد لا تأتى) ، وقد استبعد (المسؤولون وقتئذ) بطبيعة الحال، اسم الأديب الكبير الطيب صالح، رغم شهرته العالمية، ورغم المكاسب الأدبية التى ستعود على الوطن من تواجده فى التظاهرة الأدبية الكبيرة كأديب عالمي، وذلك لموقفه منهم، نسبة لمقاله الشهير الذى دبجه قلمه عنهم بعنوان (من أين جاء هؤلاء؟). وبدأوا في البحث في دفاترهم القديمة المنسية، فنكتوا من بين أضابير التاريخ القريب الشاعر الكبير الأفروسوداني محمد مفتاح الفيتوري، وأرسلوا له دعوة في لندن ليأتي ويستقبل ضيوف البلاد، ولبى الفيتوري الدعوة مشكورًا، فهو ابن السودان البار، وابن دارفور الثائر، المولود فى الجنينة فى العام 1930م، وصاحب الكلمات الوطنية الثورية الرائعة، والنشيد العظيم الذى صدح به الفنان العملاق محمد وردي أيام ثورة أكتوبر 1964م، وخُلّد فى ضمائر ووجدان وقلوب جميع الوطنيين السودانيين : (أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق!).
وكان أن استقبل مرحبًا به في تلفزيون السودان أثناء نقل فعاليات (الخرطوم عاصمة الثقافة العربية) من أرض المعارض بالخرطوم، وكان الفيتورى فى قمة سعادته وهو يلتقى بعد طول غياب عن وطنه أصدقاء الأمس، وزملاء الدراسة، والدموع تطفر من عينيه وهو يحتضن بشوق إخوان له فرق الزمن بينه وبينهم، واستقبله تلفزيون السودان على منصة الإحتفال الرئيسية، وشاءت الأقدار أن يسأله المذيع سؤالا لم يتوقعه، بل فاجأه، وقلب فرحته رأسا على عقب، فتجهم وجهه، واربدت ملامحه، ولم يعرف كيف يجاوب..!
كان السؤال المفاجىء الذى لم يتوقع : لماذا تخليت عن جوازك السوداني وحصلت على الجواز الليبي؟
سكت الفيتوري للحظات، كأنما يستجمع شتات نفسه المبعثرة على خارطة الوطن العربي، وتلألات دمعتان حائرتان في مقلتيه، وقال: في الحقيقة لم أتنازل عن جوازي وجنسيتي السودانية، وإنما تم نزعهما مني انتزاعًا كإنتزاع الروح من أعماق الجسد، وهو حديث ذو شجون لم يسبق لي أن تحدثت عنه، لأنه يسبب ألمًا شديدًا لروحي وكل جينات جسدي، وأنا مضطر للإجابة على سؤالك، ولكن فى غير هذا المكان، وانتهى الاحتفال ليستقبله التلفزيون السودانى فى حلقة مهمة، أرجو أن يكون التلفزيون محتفظا بها، ولم تصلها أيادى العابثين والمخربين من كل الأنواع والفئات.
قال الفيتورى : كنت سفيرًا للسودان في لبنان، وجئت في زيارة عمل روتينية للسودان في أعقاب انقلاب الشيوعيين فى العام 1971م، وعلمت من أحد الأصدقاء أن الأستاذ محمد إبراهيم نقد، مطلوب القبض عليه من قبل حكومة نميري، وهو مريض ويعالج في الخفاء في بيت أحد أقاربه في أم درمان، ولما كان (نقد) زميلى بمقاعد الدراسة لسنوات وصديق عمرى، حاولت بشتى الطرق معرفة مكانه، إلى أن دلني صديق وفي على مكان وجوده، فذهبت وأديت واجب الزيارة للصديق المريض وسافرت إلى لبنان مكان عملي، ولم أكن أدري أن العسكر يضعون جواسيس ورجال أمن على موظفيهم، حتى الكبار منهم كالوزراء والدبلوماسيين، وحكام الأقاليم … الخ، والمفترض فيهم أنهم محل ثقة كبيرة، وكان أن ذهب هؤلاء الجواسيس إلى نميري قائلين له بالحرف الواحد: سفيرك راح زار عدوك..!
وكان أن أرسل نميرى عناصره المخابراتية إلى لبنان، وفتحوا السفارة ليلاً، وكذلك مكتبي وأخذوا جواز سفري وسافروا به لتسليمه لنميري، وفي اليوم التالي صدر بيان وزارة الخارجية السودانية بعزلي كسفير من وزارة الخارجية، ونزع جوازي وجنسيتي السودانية..! فأصبحت بين ليلة وضحاها، بلا عمل، وبلا هوية، وبلا وطن..!
وصل الخبر إلى وزارة الخارجية اللبنانية، فأرسلوا لي مبعوثًا من كبار موظفيهم يبلغنى برسالة من الحكومة اللبنانية بأنهم لن يستطيعوا التعامل معي رسميًا كسفير، ولكن لمكانتي كشاعر عربي كبير، ودبلوماسي له خدمة طويلة في المجال، فإن الحكومة اللبنانية تعرض على منزلاً للإقامة الدائمة به كمواطن عربى، وراتبًا معقولاً ومنحًا دراسية لأبنائي فى المدارس اللبنانية مجانًا..!
وفي الحقيقة، صعبت على نفسي، أن أبدو متسولاً ومستدرًا لعطف وإحسان بعض إخوانى رغم شعوري بالإمتنان الشديد لهم على هذا الكرم الحاتمي، وتركز تفكيرى فى أن أجد (عمل ما) أستطيع عن طريقه كفالة وتربية أسرتى وأبنائى من عرقي وكدي، وليس من إحسان البعض عليّ وعلى أولادي.
وظللت عدة ليال ساهرا أفكر فى كيفية الخروج من هذا المأزق، وفجأة برزت فكرة إلى ذهنى. كانت لي صداقة مع العقيد القذافي أثناء زياراتى المتكررة لبلاده، وعقد ندوات شعرية فى كثير من الأندية فى طرابلس وبنى غازى، وكان يعتبرنى مواطنا ليبيا لتداخل قبائل دار فور حيث ولدت بمدينة الجنينة بالسودان مع قبائل حدودية داخل ليبيا. وكان أن اتصلت به وأبلغته بما حدث، وقد اندهش كثيرا وقال لى بلا تردد جهز أغراضك وأولادك، في خلال ساعات ستصل طائرة ليبية خاصة إلى مطار بيروت لتنقلك وأولادك الى ليبيا، وفعلاً بعد عدة ساعات وفي وقت متأخر من الليل وصلت الطائرة واتصل بي أحد المسؤولين الليبيين ممن جاءوا في الطائرة، ووأفادنى بأنهم سوف يحضرون إلى منزلى لتنفيذ أمر العقيد لنقلي وأولادي إلى ليبيا..!
اتصلت بأصدقائى فى وزارة الخارجية اللبنانية، وأخبرتهم بنيتى فى السفر إلى ليبيا، ورجوتهم أن يحملوا شكرى وتقديرى وامتنانى للرئاسة اللبنانية على عطفهم وكرمهم البالغ. وتوجهت وأسرتى إلى مطار بيروت مع الإخوة الليبيين الذين قدموا من طرابلس، ووجدت نفسى وأولادي فى الطائرة المتوجهة إلى طرابلس مسافرون إلى المجهول، ولا أعرف ماذا سأعمل وكيف سأعيش؟
وصلنا إلى مطار طرابلس ووجدنا سيارة رئاسية في إنتظارنا، وبعض المسؤولين في الحكومة، أحدهم بمرتبة عالية ويبدو كضابط فى الجيش أو مسؤول كبير، كما فهمت من إحترام الآخرين له، وتم نقلنا إلى فيلا فخمة في حي من أحياء طرابلس الراقية، وشكرت المسؤول الكبير وطلبت منه نقل تحياتي لسيادة العقيد حتى أستطيع مقابلته غدًا إذا اعطيتموني موعدًا للزيارة، ولكن المسؤول الكبير إعتذر لي قائلاً بأدب شديد: لابد إنك سيدى قلق من جراء الموقف الذى حدث لك، ومرهق من تعب السفر، ولكن الأوامر لدي أن آخذك الآن إلى سيادة العقيد وهو في انتظارك، تعجبت من ذلك لأن الفجر تبقت له سويعات قليلة، ولكني امتثلت لأوامر العقيد وسرت معه إلى حيث وجدناه في خيمته المعهودة التى يحب الجلوس فيها في فناء مقر الرئاسة، وكان معه السيد عبدالسلام جلود أمين الخاجية، ولاحظت أن جواز سفر أحمر كان بينهما على الطاولة، وبجانبه خطاب مغلق.
استقبلاني بالأحضان مرحبين بى مع تساؤلات عن تلك الأحداث الغريبة التى وقعت لي مع الرئيس نميري، وأخيرًا تناول العقيد جواز السفر الذى كان أمامه، وسلمنى الجواز والخطاب قائلاً لى : هذا جواز سفرك الليبي الجديد وقرار تعيينك سفيرًا فوق العادة ووزيرًا مفوضًا للجماهيرية العربية الإشتراكية العظمى، وبقى أن تختار مكان عملك مع السيد أمين الخارجية، وتحدث معي عبدالسلام جلود عن الدول الخالية من منصب السفير حاليا، واخترت بريطانيا..! أحسست أننى أريد أن أبتعد عن الوطن العربى بالكامل لفترة أسترد فيها نفسى الضائعة..!
ولأول مرة في تاريخ الدبلوماسية العالمية يكون هنالك سفير لدولة في دولة ما، ليتحول فجأة إلى سفير لدولة أخرى في بلد آخر!
وسافرت إلى لندن مع أسرتي ومكثت لسنوات إلى أن أرسل لي الوزير عبدالسلام جلود، خطاب التقاعد بعد أن وصلت إلى سن المعاش. وعدت إلى ليبيا وسكنت الفيلا الممنوحة لي من الحكومة الليبية، وجهزت خطاب شكر للعقيد، ووضعت جواز السفر الدبلوماسي مع الخطاب في مظروف، وأرسلته مع أحد موظفى الخارجية الكبار ليسلمه للعقيد ويأخذ لى معه موعدا لمقابلته وشكره. وفى اليوم التالى فوجئت باتصال من مكتب العقيد يدعونى لمقابلته فورا. وبعد سويعات قليلة وصل مسؤول كبير لمنزلى وقد أتى لإصطحابي إلى زيارة العقيد..!
ووجدته كما عهدته في المرة الأولى، جالسًا في خيمته التي يفضل الجلوس فيها كعربي قح، وبتواضع شديد لم أعهده في رؤساء الدول التى زرتها، استقبلنى مرحبًا ومبتسمًا كعادته، ثم إلتفت إلى جلود قائلاً له : يا عبدالسلام، الشعراء لا يحالون إلى المعاش، وناولنى مظروفًا : هذا قرار تعيينك سفيرًا ووزيرًا مفوضًا مدى الحياة..!
سبحان الله!! رحم الله القذافي والفيتوري وغفر لهما وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة.