مقالات وآراء سياسية

السودان القديم وطنٌ كان قبل أن يُرسم

شهاب طه

 

دعوة جريئة لمحو سودان الإنجليز من الذاكرة، واستعادة خيال الوطن، أو الرقعة الجغرافية الأصل التي كانت تسع الجميع.

 

مقدمة للنقاش العام:

جماهير شعبي الطيب المنكوب الصابر،

أضع بين أيديكم هذه المقالة كمساهمة في النقاش الوطني الصريح الذي نحتاجه جميعاً اليوم. ما أطرحه هنا ليس استهدافاً لأحد، ولا دفاعاً عن الماضي بقدر ما هو دعوة لتحرير وعينا من النموذج المفروض علينا منذ الاستعمار. لن تُحل مشكلات السودان ما لم نتحرر من “الحرج” ونتحدث عن جذور المأزق، بصراحة وشجاعة، ونتخيل حلولاً من داخلنا لا من خارطتهم. أرجو أن أجد منكم آراءً تضيف وتنتقد وتطور، فهذه الكتابة ليست إلا دعوة لحوار أوسع يشارك فيه الجميع.

 

1. الدولة المستعارة: كيف بدأ التشوّه؟

 

في كل مرة نتصدى فيها لمشكلات السودان المستعصية، نجد أنفسنا نعود إلى لحظة الاستقلال عام ١٩٥٦م، ودلة ٥٦ الوهمية، ثم نغرق في تحليل الصراع بين المركز والهامش، بين الجلابة والغرابة، بين النخبة والجماهير، بين العسكر والمدنيين، بين الديمقراطية والهوس الديني. لكن نادراً ما نتجرأ على الذهاب أعمق، إلى ما قبل تلك اللحظة بكثير: إلى الجذر الذي نبتت منه الأزمة كلها.

 

لقد رسم الاستعمار البريطاني حدود السودان، لا بناءً على أنساقه التاريخية ولا على وحدته الثقافية، بل وفق منطق الخرائط والمصالح. ثم زرع فيه مركزية إدارية غريبة، ونخبة صنعتها مدارس البعثة، وقاموساً جديداً للعلاقة بين الناس والدولة: المواطن بدلاً من الفرد الحر، القانون بدلاً من العرف، ضابط المركز بدلاً من شيخ القبيلة، والخارطة بدلاً من المجال الحيوي الذي عرفه الناس.

 

تحول السودان من مجتمع عضوي إلى دولة مُستعارة، تحمل اسماً لم يكن هو إسمها وهويّةً لا علاقة لها بنشأته الأصلية. ومنذ ذلك الحين، لم يشعر غالبية السودانيين بأنهم جزءٌ من هذا الكيان الغريب.

 

2. المجتمعات القديمة: خرائط بلا حبر

 

في السودان القديم، قبل أن تطأه أقدام الاستعمار، لم تكن هناك دولة مركزية تُهيمن على الجميع، بل كانت هناك كيانات محلية ذات سيادة واضحة: الممالك الكوشية، مملكة الفونج، سلطنة الفور، سلطنة دار مساليت، مشيخات البجا، وغيرها. كل منها كانت تمارس الحكم وفق نظمها الخاصة: سلطة شرعية، وجيش، وقضاء، وعرفٌ ينظم الحياة.

 

لم يكن الناس رعايا في دولة لا يعرفونها، بل كانوا أبناءاً لمجتمعات ينتمون إليها وجداناً وفعلاً. لم يكن المركز بعيداً عن الريف، لأن السلطة كانت نابعة من الأرض لا مفروضة عليها. لم يكن هناك “مواطن” بلا جذور، بل فرد له مقام اجتماعي في نظام قبلي أو ديني متماسك. لم تكن هناك وزارات ولا جيوش وطنية، ولكن كان هناك أمن وعدل وانضباط اجتماعي حقيقي.

 

3. الهجرة غير المنظمة: جذر الخلل وسبيل الخلاص

 

تشكّل الهجرة العشوائية وغير المنظمة اليوم واحدة من أخطر المهددات التي تقوّض الأمن القومي وتنهك التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية في السودان الحديث. ليست مجرد انتقال أفراد، بل تعبير عن اهتزاز بنية الدولة وفقدان المجتمعات لتماسكها الداخلي.

 

ومع تعقّد المشهد الراهن، يبدو من العسير حسم هذه المعضلة داخل الإطار الذي فُرض علينا منذ الاستعمار، حين تم تفكيك المجتمعات المحلية القديمة، وفقد الأفراد صلتهم بأرضهم الأصلية. لذا فإنّ العودة إلى أنساق ما قبل الاستعمار ليست رجوعاً إلى الوراء، بل استعادة لأدوات الفرز والتنظيم التي كانت تضمن التوازن الأهلي.

 

في السودان القديم، كان لكل فرد موطن، ولكل جماعة أرض، والانتماء كان واضحاً ومحكوماً بروابط الدم والعرف. وبهذا النسق، يمكن لكل دويلة أو مجتمع محلي أن يعيد التمحيص والفرز، فيُميز بين الأصيل والدخيل، ويُعيد ترتيب بيئته الداخلية على أسس من العدل والاستقرار، ما يُمكِّن من إعادة توطين النازحين بصورة عادلة لا فوضوية.

 

4. كيف نعود؟ لا إلى الوراء، بل إلى الجذور

 

ما ندعو إليه ليس حنيناً للماضي ولا تبجيلاً للقبيلة، بل تحريراً للخيال الوطني من أسر النموذج الأوروبي الغريب الذي أدخلنا في دوامة الحروب والنفور. نريد أن نُعيد تخيل السودان كما عرفه أهله قبل أن يُفصَّل كجلابية ضيقة على مقاس مستعمر لا يعرف أهله.

 

نريد دولة تشبه الناس، لا النظام الغربي الذي لا يلائم تركيبتنا. نريد عقداً إجتماعياً ينبت من تراب السودان، لا من مخيلة الأوروبيين. عقداً يؤمن بالتوافق الأهلي، ويمنح السيادة للواقع لا للنصوص المستوردة. أن نرسم خريطتنا من داخلنا، لا أن نُفرض على خارطة لا تعترف بنا.

 

خاتمة: فلنتخيل وطناً مرسومًا بإرادتنا لا مصنوعاً كخريطة

 

فلنُطلق دعوتنا اليوم، لا بوصفها مجرد فكرة سياسية، بل تمريناً جماعياً في الخيال الوطني: أن نتخيل أنفسنا نعيش في السودان القديم، حين كان الانتماء صادقاً، والأرض معروفة بأهلها، والسلطة محلية نابعة من الناس. أن يعود كل فرد إلى منشئه، ويرتب حال بيته الداخلي قبل أن يطالب بوطن لم يساهم في بنائه.

 

لنعد إلى ذلك الوطن الذي سبق أن وُجد، وطنٌ لم يُرسم على مقاس الغرب، بل كان منسوجاً من تفاصيلنا، من عاداتنا، من طرق عيشنا. نُحيي فيه الروح التي سكنت الأرض قبل أن تُسلب، ونبنيه كما نريده، لا كما رُسم لنا، حتى ننجو من كوارثنا التي نصنعها بأيدينا دون وعيّ.

 

[email protected]

‫7 تعليقات

  1. استاذ شهاب لماذا لا تتطرق ل لب الموضوع ، والحل الناجع وليس الحلول،؟؟..

    … الحل الناجع هو التقسيم .
    ، انفصل الجنوب بسبب تمرده وحربه ضد ما يعرف بدولة السودان، ونال الجنوبيون استقلالهم.

    …تمرد الدارفوريون ضد الدولة وخاضوا حروبا ضارية، ضد الدولة ، قادها في البدء ما يعرف بزرقة دارفور ، وبعد مهزلة جوبا ، ونيل قادة حركات دارفور الغنائم والمناصب السيادية ،وضعوا ايديهم،علي ايدي قادة الجيش المؤدلج..

    في ابريل 2023 تمرد ما يعرف بعرب دارفور علي الدولة، والجيش المؤدلج الذي خرجوا من (رحمه)،واشعلوا حرب طي الخرطوم،والتي مازالت مستعرة…

    اصبحت معضلة دارفور سلعة سياسيه يتبادلها حركات دارفور المسلحة والكيزان عسكرا او ساسة.

    …كل هذه الحروب ضد الدولة وضد قبائل بلاد النيلين، ولم يطالب أي تنظيم او حركة دارفوريه بالانفصال، !! مما يوضح انهم ليسوا اصحاب قضيه ،بل مستثمرين في معاناة اهل دارفور ،لينالوا حق اللجوء في اوروبا وامريكا، ويعتلوا المناصب السياديه بمعية الكيزان..
    …الحل الانجع لمشاكل السودان استاذ شهاب، هو التقسيم، بدءا بدارفور، علي الدولة السودانيه رفع يدها عن دارفور وتسليمها للاتحاد الافريقي، والامم المتحدة ليتولوا امر الاقليم، ونقول لهم بكل اخلاص. Good Luck ..

    …بعد حرب طي الخرطوم اصبح التعايش السلمي بين الدارفوريين، وقبائل بلاد النيلين، ضربا من المستحيل،
    …لن يسمح اهلنا في بلاد النيلين ان يعيش الدارفوريون مجددا بين ظهرانيهم، وقد بدأ الدارفوريون في العودة الطوعية الي دارفور خاصة الي الضعين ونيالا.
    …التقسيم قادم شاء من شاء وابي من ابي.

    …. التقسيم سمح….

  2. يجب أن نعود إلى ما قبل 1820 … الغزو التركي
    و حتى نعود إلى هذا فلابد من الاستعانة بالأمم المتحدة و إلغاء كل ما تم منذ تلك اللحظة التي دخل فيها الأتراك …. الغاء كل القوانين و اللوائح و الجيش و الشرطة و يبدأ أصحاب كل منطقة في تنظيم حياتهم … حتى الوافدين من مناطق أخرى إن فضلوا البقاء حيث هم ليس لهم في مناقشة ما يقوم به السكان الأصليين.
    الموضوع طويل جدا و يستغرق لا اقل من ثلاثين سنة.

  3. شكرا استاذ شهاب. فعلا هنا يكمن الحل وليس في الاقصاء والقضاء على الجلابة أو الفور. نفس هذه النظرة قدمتها تقريبا قبل اسبوع تعليقا على مقال للأستاذ ياسر عرمان لكن للأسف لم قم الراكوبة بنشره لانه كلام مر لكنه الحقيقة وقلت فيه ان كل الذين يتناولون القضية ينطبق عليهم المثل الانجليزي :beating around the bush يقابله مثلنا السوداني الشعبي عينو في الفيل ويطعن في ضلو. لذلك اذا لم يتحرر أهل السودان من عقدة الجلابة و الغرابة والمركز والهامش لن تقوم لهذا الوطن قائمة إلى قيام الساعة.

  4. كذاب ومنافق السودان كان مجموعة ممالك وسلطنات منها سلطنة سنار وسلطنة دارفور وسلطنة مساليت وسلطنة تقلي وغيرها. لم يعطي السودان إسمه ورسمه الحالي إلا دولة محمد علي باشا. الدول الحديثة لها شروط من الحداثة يجب تحققها َالإعتراف بها من كل مواطنيها وأولها حقوق المواطنة. الدولة المدنية الديمقراطية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة وصيانة الحقوق والفصل بين السلطات هي الحل.
    إنت مجرد جلابي تريد أن يتقسم السودان طالما لا يستطيع أهلك حكمه مرةً أخرى.
    اترك تعليقاً

    1. طوالي كده؟ كذّاب ومنافق؟ في شنو؟ ولماذا هذا التهور والعنف اللفظي؟ ألهذا الحد تؤلمك فكرة أن السودان لا تشبهنا كشعوب متنافرة؟ أم أنك غاضب فقط لأن أحدهم تجرأ على كشف وهم الدولة التي تسكنها ولا تسكنه؟

      إذا لم تفهم الفكرة، اصمت، ولا تهاجم صاحبها. والمضحك أن ما تسميه رداً ليس سوى تكرار لما كتبته أنا، بل إنك تؤكد أن السودان كان ممالك وسلطنات، وهذا ما قلته بالحرف. فأين خلافك إذن؟ أم أن مشكلتك الحقيقية مع من قالها، لا مع ما قيل؟

      تظن أن غزو محمد علي باشا هو ميلاد الوطن؟ أي وطنٍ يولد على فوهة بندقية وبأوامر خارجية؟ هذه سذاجة سياسية وجهل بالتاريخ، إن لم تكن خيانة للوجدان الجمعي.

      وتكرر كلمة “جلابي” كأنها سُبة؟ الجلابي الذي تحاول تجريمه هو الذي خدم السودان من تركاكا لنمولي، ومن بورتسودان للجنينة، طبيباً ومُعلماً وقاضياً ومهندساً ومزارعاً وموظفاً، لا غازياً ولا نهاباً.
      الجلابي لم يأت من وراء الحدود، بل وُلد في تراب هذا البلد، وساهم في بنائه من أقصاه لأقصاه، بينما كنتُم تتظلمون في الظل ثم تتنصلون من الفشل عند أول منعرج.

      أما قولك إنني أدعو للتقسيم لأن “أهلي” فشلوا في الحكم، فأقولها لك بوضوح: نعم، التقسيم أشرف من أن نبقى رهائن في مشروعٍ لا يشبهنا، تحاربه نخبٌ ما زالت تكتفي بلعن “المركز” والتباكي على الأطراف دون أن تنجح في حكم حارة في مناطقها.

      هل ترفض التقسيم؟ إذن احكم نفسك أولاً، طوّر أهلك، أعمل مسح وكسح الأمية وهي أمر لا يحتاج لدولة، وأنجز مشروعاً واحداً حقيقياً يرى، ثم تعال حدّثني عن الدولة. أما أن تبقى تتلوّى في فشل سياسي وثقافي مستمر، ثم تتهم الآخرين، فهذا الإفلاس بعينه.

      نعم، أحنّ إلى الماضي، ليس تبجيلاً للقبيلة، بل احترامًا لأمنٍ اجتماعي ضاع، ولسلطة كانت محلية وقريبة من الناس.
      وأدعو لتحرير وعينا من هذا النموذج المعلّب الذي فرضه الإنجليز ورضيتم به أنتم، ثم فشلتم في ملء فراغه.

      فكر قبل أن تشتم، لأن الشتائم لا تغيّر الحقائق، ولا تعوّض العجز.

      هل ترغب بإرفاق هذا الرد بصورة غلاف أو تصميم يجذب الانتباه لو نشرته؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..