ثقافة وآداب، وفنون

الميكرو نوفيلا بطابع أسطوري سوداني في “عرس الزين”

نوع أدبي برع في كتابته الطيب صالح محولا قرية إلى فضاء رمزي.

الميكرو نوفيلا، الرواية القصيرة جدا أو المصغرة نمط من الكتابات السردية التي تشهد اليوم انتشارا واسعا، وقد ساهمت خصوصياتها الفنية في تحقيق النجاح لها واجتذاب أقلام كثيرة للكتابة فيها. لكن يلفت انتباهنا الاعتقاد بأن هذا النوع الأدبي توجه جديد في الأدب، وهو ما يجانب الصواب إذ كتبت فيه أهم الأسماء الأدبية منذ عقود، من هؤلاء الطيب صالح.

لم يعد حجم الرواية معيارا نهائيا لقيمتها أو قدرتها على التأثير. في العقود الأخيرة، نشط نوع أدبي يعرف بالنوفيلا وتفرع منه ما يسمى بـ”الميكرو نوفيلا”، وهو شكل سردي مكثف وقصير، يمكن أن يتجاوز حجمه الزمني والبنيوي ليصبح عملا أدبيا عالميا بامتياز، بفضل قوته التعبيرية، وتركيزه، وبنائه الرمزي المتين.

في هذا الإطار، تمثل رواية “عرس الزين” للطيب صالح مثالا عربيا ضمن النماذج لهذا النمط، إذ لا تتجاوز المئة صفحة، لكنها تبهر القارئ بكثافتها، جمالياتها، ورمزيتها الشعبية.

ملامح الميكرو نوفيلا

ما يميز “عرس الزين” اختزالها الشكلي وكذلك تلك القدرة البديعة على نسج كل شخصية، كل حدث، كل مكان، وكل همسة، لتكتسب دلالة متكاملة وساحرة.

الطيب صالح، كاتب عالمي بلغة عربية، استطاع أن يحّول قصة بسيطة في قرية سودانية إلى رواية ذات أبعاد إنسانية وأسطورية، تجعل منها عملا أدبيا تجاوزت شهرته حدوده المحلية.

نشرت هذه النوفيلا منذ 1969 وعدد صفحاتها أقل من مئة صفحة. المكان فيها هو قرية سودانية (لم يسمها صراحة، لكنها تشبه “ود حامد” في أعماله الأخرى). هذه النوفيلا ينطبق عليها الكثير من صفات الميكرو نوفيلا، نص يتميز بطابع شعبي/ أسطوري.

نعدد ملامح الميكرو نوفيلا في “عرس الزين”، بداية بشخصية مركزية طاغية هي الزين، والزين هو الشخصية المحورية الديناميكية في الرواية، شاب قروي بسيط، دميم الشكل، غريب الأطوار، محبوب رغم “قبحه” الظاهري، ويصبح مركز اهتمام القرية حين يعلن زواجه من أجمل فتيات المنطقة. الزين يمثل النموذج المضاد للبطل الكلاسيكي، وهو ما يجعل الرواية أقرب إلى التمثيل الرمزي منها إلى السرد الواقعي الخالص، كما في أغلب أعمال الميكرو نوفيلا.

كما نجد وحدة الزمان والمكان، فالرواية تجري أحداثها بالكامل تقريبا داخل قرية واحدة، وزمنها محدود، ويحكى بتقنية الفلاش باك والاسترجاع. القرية ليست فقط مسرحا للأحداث، لكنها  تكاد تكون شخصية روائية قائمة بذاتها، تشهد على تطور الزين وتحول نظرته إلى نفسه ونظرة الآخرين إليه.

أيضا تقوم على اقتصاد السرد وتكثيف اللغة، فرغم الطابع الشعبي والبساطة الظاهرة، فإن الطيب صالح يمارس تكثيفا عاليا في وصف الشخصيات والمواقف. دون حشو، ولا مط، فكل مشهد يحمل دلالة واضحة: اجتماعية، رمزية، أو نفسية.

كذلك نجد التحول من شخصية هامشية إلى مركزية، من الغرابة إلى القبول، من السخرية إلى التقدير. هذا المسار تمت هندسته بخط سردي واضح، دون الحاجة إلى عقد فرعية، وهو من أبرز سمات الميكرو نوفيلا.

وتقوم “عرس الزين” أيضا على سرد شفهي الطابع بأسلوب أدبي، إذ يكتب الطيب صالح بأسلوب أقرب للحكاية الشفاهية، لكنها مشبعة بالجمال اللغوي. هذه التقنية تمنح الرواية إيقاعا خاصا، يجعلها موجزة لكن ساحرة النكهة.

وتحضر الرمزية في العمل فالزين يساوي النقاء الخام، الفطرة، الإنسان غير المبرمج اجتماعيا، والقرية رمز للوطن، الجماعة، معيار القبول، أما الزواج فيشير إلى التحول، القبول الاجتماعي، استعادة التوازن، الشيخ الحنين يساوي الحكمة الشعبية، التدين المتسامح.

الرواية، رغم صغر حجمها، تحيلنا إلى أسئلة كبرى حول الهوية، الجمال، الانتماء، والحب الإنساني العابر للمقاييس الشكلية وتعج أيضا بالأسئلة الصغيرة الخطيرة جدا.

لماذا يمكننا وصف “عرس الزين” ضمن الميكرو نوفيلا العربية؟

لأنها تحقق بناء روائيا متكاملا في أقل من 100 صفحة، وتقوم على شخصية محورية تتحول بوضوح، ومكان وزمان محدودين، إضافة إلى سرد مكثف وبنية ذات بعد رمزي، ما يجعلها تقدم تجربة قرائية تحدث الأثر دون إطناب.

جوهر العمل

تكمن عبقرية “عرس الزين” في قدرتها على خلق عالم روائي متكامل من خلال اقتصاد سردي محكم وتكثيف لغوي بالغ الدقة، دون أن تفقد سحر الحكاية أو نبض شخصياتها. كل شخصية في الرواية، مهما كانت بسيطة أو هامشية، تؤدي دورا وظيفيا ضمن بنية سردية متوازنة، وهو ما يعكس إدراك الطيب صالح لبنية الشخصية الروائية كعنصر ديناميكي وليس زينة سردية.

ومن أبرز عناصر الإبهار في الرواية استخدامها لتقنيات أشبه بالسينما: الانتقال السلس بين المشاهد، الاسترجاع الزمني، والتقطيع البصري المشهدي، مما يخلق إيقاعا بصريا/ سرديا يجعل القارئ متورطا في اللعبة السردية دون أن يشعر. مراوغة القارئ ليست حيلة بقدر ما هي إستراتيجية فنية مدروسة، تجعل لعبة التخيل أطول، وأثر الرواية أعمق.

“عرس الزين”، بهذا الشكل، تعدت شكل حكاية زواج في قرية سودانية، بل مثال ناضج على إمكانيات “الميكرو نوفيلا” العربية، وقدرتها على الوصول إلى تخوم العالمية، حين يكون الكاتب صانعا حقيقيا للدهشة والمعنى.

من الضروري التوضيح أن أي ادعاء بأن الميكرو نوفيلا ولدت مؤخرا، أو أنها ظاهرة حديثة لا يتجاوز عمرها بضع سنوات، هو ضرب من الجهل والتبسيط المخل. هذا الشكل السردي كان حاضرا بأشكال متعددة في الأدب العالمي والعربي منذ عقود طويلة جدا. فالكثير من النقاد يفضلون مصطلح “النوفيلا” بوصفه الحد الأدنى بين القصة القصيرة والرواية الكاملة، بينما يرون في مصطلح “الميكرو نوفيلا” صيغة تقنية أكثر منها جوهرية.

سواء سميت نوفيلا أو ميكرو نوفيلا، فإن ما يصنع الفرق الحقيقي ليس التسمية، بل جوهر العمل نفسه: عمقه، بناؤه، لغته، وجاذبيته. فالنص الإبداعي يفرض نفسه بقوته الداخلية، لا بما يكتب على غلافه أو يقال عنه في التقديم. الكثير من المقدمات والتسميات تضخم ما هو قزم ورديء، بينما العمل الجاد، المتين، هو وحده الذي يخلد صاحبه، ويمنحه المكانة الأدبية التي يستحقها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..