من شارل ديغول إلى محمد ضياء.. السنغال تغير رمز الاستعمار برمز التحرر

مازالت أفريقيا إلى اليوم تعاني من آثار الاستعمار الذي مازال يهيمن على ثرواتها، ويوجه شعوبها وسياسات دولها، وهو ما تواجهه نخبة من المثقفين والمفكرين الأفارقة بقوة منذ عقود، وقد نجح بعض هؤلاء في ترسيخ أفكاره ونضالاته لاستعادة أفريقيا لصوتها وحريتها وقرارها ولتقديم ثقافتها ومجتمعاتها بعيدا عن التشويه الاستعماري.
السنغال تسقط اسم شارل ديغول من لافتة أكبر شوارع العاصمة داكار، وتضع عليه اسم محمد ضياء، هذا الخبر لن يشغل القراء العرب كثيرا وقد لا يقرأونه أصلا، ولا لوم عليهم، فما يعيشونه هذه الأيام خطب جليل و”ليس لعين لم يفض ماؤها عذر”. ولكني أريد أن نقف عنده قليلا.
أعانت فرنسا نفسها سنوات الحرب الثانية، بفيالق من أبناء مستعمراتها، مع وعود بالاستقلال صريحة أو مضمرة، أشهرها الفيلق السنغالي الذي أبلى بلاء حسنا. ولكن يوما ما، احتج هذا الفيلق من جراء الأحوال الصعبة والتعامل السيئ والمماطلة في دفع المستحقات، ولم يعجب ذلك فرنسا، فأحاط جندها بمعسكر صغير من السنغاليين، صباح أول يوم في ديسمبر عام 1944، أخذتهم حين غرة، عزلا، وقتلت ما يزيد عن الثلاثمئة منهم. ظلت هذه الحادثة في ذاكرة الأمة السنغالية حتى اليوم، وفي ذكراها الثمانين، حمل الإخباريون نبأ عظيما من داكار، فحواه أن الرئيس السنغالي المنتخب حديثا، باسيرو فاي، عزم على إزالة رموز استعمارية، وإبدالها بأسماء وطنية وأفريقية.
مفكر أفريقي
قرأت الخبر وأنا منشغل بتحرير الأعمال الكاملة للراحل جمال محمد أحمد (1915-1986)، وهو لمن لا يعرفه – وقد يخفى القمر أحيانا – مؤرخ ومفكر وأديب سوداني ودبلوماسي، تولى وزارة الخارجية السودانية في السنوات الحرجة التي تلت استقلال السودان، عالج بمؤلفاته قضايا أفريقية، وشؤونا تتصل بالعلاقات العربية الأفريقية، وقدم تحليلات عميقة لنماذج خالدة من الأدب الأفريقي.
ومحمد ضياء (1911-2009) من أبرز رجال الحركة الوطنية السنغالية، درس الاقتصاد في جامعة باريس، وعمل مدرسا وصحفيا لحين من حياته، وانخرط في السياسة، وحين استقلت السنغال كان من بناة الجمهورية الوليدة. شغل منصب رئيس الوزراء منذ عام 1957، تحت رئاسة رفيقه ليوبولد سيدار سنغور. غير أن الصفاء بينهما لم يدم، فاتهمه سنغور بأنه يسعى للانقلاب عليه، عام 1962، وأدين بذلك وليس من دليل قاطع، فاعتقل هو وبعض وزرائه، وأجبر على الاستقالة، وسجن.
ثم عام 1976، منح عفوا عاما. وعلى كل ظل رجلا ذا مكانة في نفوس السنغاليين إلى أن توفي عام 2009، وشيع في جنازة وطنية كبيرة. ذاعت مؤلفاته الاقتصادية الجريئة، وانتقاداته للاقتصاد الليبرالي الجديد، ودراساته عن الإسلام وأفريقيا، والتضامن الأفريقي، فأنزلتْه منزلة رفيعة بين مفكري أفريقيا وعلمائها.
مفكر ذاعت مؤلفاته الفكرية وانتقاداته للاقتصاد الليبرالي الجديد ودراساته عن الإسلام وأفريقيا والتضامن الأفريقي
هذا، وكان جمال محمد أحمد قد توقف عنده وقدمه إلى القارئ العربي في وقت باكر، بكلمات بينات، وذلك في كتابه: “وجدان أفريقيا”، وهو كتاب كان أصله بحثا قدمه جمال في مؤتمر أقامته الجامعة الأميركية في بيروت عام 1967 عن الإسلام في الفكر الديني والاجتماعي المعاصر في أفريقيا، ثم وسعه فغذى كتابا مرجعا في الدراسات الاجتماعية الأدبية الأفريقية، فهو حديث واف عن الديانات في أفريقيا، وأي أثر تترك هذه الديانات في معتنقيها.
رسم جمال بفقرات موجزة بورتريها جذابا لمحمد ضياء، من ذلك قوله، في سياق حديثه عن الحيرة التي يجدها المسلم الأفريقي تحت الاستعمار، فهو: “رأى النور في جامعات أوروبا، يحيا فكرة وحيرة (…) يخشى أن يخاطر بالوظيفة إن كان واحدا من أدوات الحكومة، وأن يخاطر بالتجارة إن كان واحدا من رجالها.”
يشير جمال في موضع آخر إلى ميزة امتاز بها محمد ضياء عن كثيرين ممن تصدوا للنضال ضد أوروبا، وهي جمعه بين العقل السياسي والعقل الاقتصادي. ولكن الزوابع السياسية التي أدخل نفسه فيها، حالت دون أن يعود كما كان أول أمره، ولكن آنذاك “عكف على هذا الجانب عقل مسلم ينظر إلى الأمام في أمل، وإلى الخلف في طمأنينة. أنا أشير إلى محمد ضياء.”
وبعد أن يأتي جمال على ذكر محنة محمد ضياء وإبعاده عن الساحة الفكرية والسياسية، وقف يبين مكانته في سياق الفكر الأفريقي، يقول بعبارات تمسك الواحدة بأختها: “من يدري! لعل لمحمد ضياء عودة. إن لم يعد، لن يستطيع الذين حبسوا ضوءه خوف أن تعشيهم ناره، أن ينكروا عليه أن اسمه سيرتبط بالنظرات الاقتصادية التي توجه أفريقيا، لأنه رآها قبل كل راء عدا كوامي نكروما، قبل أن يصل الرئاسة ويحف به القلق. تتألف قوى البغض ضده هنا في القارة وهناك في أوروبا. ضياء لم يعمر طويلا في الحياة السياسية، ليرى إن كان في الوسع أن تخرج نظراته الفكرية عملا يحسه الناس في عيشهم اليومي. خرج على الناس بكتابه ‘تأملات في اقتصاديات أفريقيا‘، عام 1953، وخمس سنوات بعدها خرج على الناس كتابه ‘التعاونيات في أفريقيا’.”
وعرض جمال في السياق ذاته، الأفكار الرئيسية التي أوردها ضياء في كتابه الأشهر «الشعوب الأفريقية والتعاون الدولي» الصادر عام 1960، قائلا بأن هذا الكتاب “ظل أكثر ما يلفت النظر الأوربي ويخيفه، وذاك للنظرات الماركسية التي أوحت عليه فكره. كانت عيونه (أي عيون ضياء) حين ذاك عالقة بالنجوم، لا ترضى دونها. ساق بين يديه نظرات ماركس، وضعها في خدمة أفريقيا، بعد أن أفرقها (…) استعان ضياء بالأداة الماركسية، حلل بها الفجوة بين الذي تملك أفريقيا من ثروات، والذي تعيش من فقر القرون. والماركسية تربط الحال الاقتصادية رباطا وثيقا بالحال الاجتماعية، وقدرها ضياء تقديرا أعانه على نظرته السوسيولوجية للوضع الاقتصادي في أفريقيا.”
ضياء استعان بالأداة الماركسية، حلل بها الفجوة بين الذي تملكه أفريقيا من ثروات، والذي تعيشه من فقر القرون
ثم في موضع آخر يقول جمال في ثنايا عرضه، أن ضياء نقد في كتابه الاقتصاد المُعان، يعني التقدم الاقتصادي القائم على الإعانات، وإن لم يكن في كل الذي يكتب يرفض الإعانة في المبدأ. وكانت هذه قضية كبرى آنذاك، وحتى الآن. ويعلق جمال على هذا الجهد الفكري، بأنك “حين تعيد النظر الآن في الذي كتب، تجدها النظرة الأصح عن القواعد التي ينبغي أن يقوم عليها الاقتصاد الأفريقي. السعي الحثيث للتجارة تقوم مقام الإعانة في وقت من الأوقات”.
وأضاف: “كانت أفريقيا تتحسس الدروب ذلك الوقت، وكان الساسة في شغل عن المحتوى الاقتصادي للاستقلال، لا عتب عليهم لا ملام، لكن ضياء كان ينظر أبعد. دعا إلى الاقتصاد الأفريقي، وقال إنه ينبغي عليه أن يبدأ في الوطن الأفريقي.“
ويختم جمال حديثه عن ضياء قائلا: “كتب ضياء هذا واللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة ما كانت تكونت بعد، ما خطرت ببال. دخلت هذه اللجنة المنْظر الاقتصادي الاجتماعي سبع سنين بعد نظراته التي أذاعها في كتبه، وأتت منظمة الوحدة الإفريقية خمسة أعوام بعد أختها هذه. حقائق تدلل على دعوانا بأن المسلم الأفريقي كان يحيا ليتمثل السنين بعد الحرية، ما ارتاب في أنها قادمة.“ وأودع جمال عند قارئه عبارة لا ينقطع رنينها مخلدة ذكر محمد ضياء: “كان التفكير الاقتصادي الاجتماعي، حساب الخسارة والمكسب، جديدا حين عالجه ضياء علاجا منيرا، وقد شغل الآخرون بالعمل السياسي، وكان من سعْد إفريقيا أن ينصرف كل لما يتقن وما يرى أنه ينبغي أن يكون، قوم يهدفون لامتلاك دارهم غدا، وآخرون يعدون أثاث الدار لذلك الغد.“
محاسبة المستعمر

لم تأت السنغال بجديد حين أسقطت اسم شارل ديغول، وهو رمز استعماري شديد الصراحة، من شارع هو مكان احتفال السنغاليين باستقلالهم، وأحلت محله اسم ابنها البار محمد ضياء. مثل هذا الفعل أقدمت عليه أمم كثيرة بعد استقلالها، حتى أن أناسا أسقطوا أسماءهم الكنسية، هل نذكر بشنوا أشيبي الذي كان اسمه ألبرت، ونغوغي وا ثيونغو الذي كان اسمه جيمس، وإن دل هذا الفعل على نزعة وطنية فهو ليس الطريقة الوحيدة لإبداء ذلك، فثمة طريقة لإثبات هذه النزعة هي نقيض هذا الفعل، أي أن تهين المستعمر بإبقاء هذه الرموز الاستعمارية، وهذا طريف وذكي، تفطن إليه عبقري الرواية العربية الطيب صالح حين زار الهند.
ذكر الطيب صالح في حديثه عن دلهي، أن “تمثال لورد كلايف صاحب الهند، لم يزل قائما في مكانه في دلهي، تهب عليه الرياح من الجنوب والشمال، وتسفعه أمطار الـ‘منسون‘ وتجلس الطير على رأسه، وهو يتحمل هذه المهانة بصبر، زاما شفتيه كما يفعل الإنجليز مثله، ناظرا إلى الأفق نظرة تجمع بين الاحتقار والرضى عن النفس. إنه مصير مهين حقا لرجل كانت تنحني له جباه ‘راجات‘ الهند، وتوجف القلوب من خشيته، وتتعلق مصائر الملايين بكلمة منه.”
ولعل هذا ما أراده نهرو، أن يجعل الهند تثأر لنفسها من الغزاة على طريقتها. كذلك ظلت تماثيل كل الرجال الذين مكنوا لسلطان بريطانيا في هذه البلاد، لم يزيحوها عن أماكنها.
“وهكذا بقي روبرت كلايف ماثلا في دلهي مثل الأسير، بعد كانت تعنو له الجباه، لقد أصبح رهينة الحلم المجنون، …، سوف تمر به الحقب وهو في أسره الأبدي، لا يستطيع منه فكاكا، تتماوج حوله جموع دهماء الهند.” هذا والطيب صالح نفسه يقدم لنا في رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» موقفين متباينيْن من المستعمر، موقف الراوي وموقف مصطفى سعيد.
ها هي ذي أفريقيا تخطو خطوات شجاعة في التخلص من كل أثر استعماري ولو كان أسماء وتماثيل، غير أن المنتظر حقا أن تنجز واقعا جديدا، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. لقد انشغل الأدب الأفريقي كثيرا بإعادة كتابة أفريقيا، وفضْح الزيف الإمبريالي، وسيكتمل هذا حين تقوى كل بلاد أفريقية، وتقيم علاقات رصينة مع مستعمريها، على مبدأ خيرها هي وشخصيتها الحرة، وعلاقة أنداد مع غيرها، وأنْ تحافظ على شروط أمنها واستقرارها، وألا تظل كعكة هشة أمام الأقوياء.
يا له من خبر ويا لها من نبوءة من جمال تتحقق: “من يدري! لعل لمحمد ضياء عودة.
العرب