نحن وغرابة الأطوار !!

سيد محمود الحاج
نحن شعب غريب الأطوار حقاً .. شعب يفهمه الآخرون دون أن يفهم هو حقيقة نفسه … تُقدمنا للآخرين صفاتنا التي تأتي بشكل عفويّ او فلنقل وفقاً لما جُبلنا عليه ، دون أن نترجمها إلى ما يجعلنا أكثر قبولاً لدى الغير وما يمكننا من خلاله منافسة الآخرين ، والأغرب أنّ هذه الصفات نبخل بها على وطننا وحتى على أنفسنا في كثير من الأحيان .. يعرفنا الغير بأننا شعب أمين مؤتمن .. صادق صدوق .. ذو مرؤءة ونخوة ، وو ربما كان هذا حقيقة وأمر نقوم بتأديته على نحوٍ تلقائي وليس غير ذلك ولكن هل حاولنا فيما بيننا أن نحوّله إلى فعل واقعي غير ما تدفعنا إليه الفطرة دون غيرها !!؟ .
هذا سؤال يجب أن نتأمله مليّاً وقبل أن نجيب عليه ينبغي أن نكون أكثر صراحة مع أنفسنا فنتلمّس مدى حب الوطن في أنفسنا وماهو مفهوم الوطنية لدينا ، بل وما مدى تعمق الهوية وفكرة الإنتماء إلى وطن واحد يسع الجميع !! هل من بيننا من يخالفنا الرأي بأن ذلك المفهوم يكاد يكون منعدماً تماماً لدينا فلقد عملت الجهوية والقبلية على علو صوت العنصرية البغيض دون صوت الوطنية التي ظلت صورتها باهتة الملامح في مرآتنا ، فقد عمل الاستعمار على ترسيخها في أذهاننا عن طريق دعم الإدارات الأهلية وتقويتها ومثلها الطرق الصوفية ، فأصبح الولاء منحصراً على تلك المؤسسات دون الوطن فلا غرابة أن ضعف مفهوم الهوية ومثلها الوطنية ، وفي غياب ذلك الإحساس أصبح الحال كما نحن عليه اليوم !!!
أتى حُكّام وتوالت حكومات منذ عهد السلطنة الزرقاء مروراً بفترة هيمنة الأتراك في فترة ما يُعرف بالتركية السابقة ثم حقبة المهدية التي تلاها الإستعمار البريطاني ومن بعده الحكومات الوطنية المدنية منها والعسكرية ، ولكن مع كل ذلك لم نتمكن من إزكاء روح الوطنية او تعميق مفهوم الهوية ، ومردّ ذلك إلى أن السلطة ودافعها بالنسبة للحكام الوطنيين كانت هي المُبتغى الأوحد .. فالتناحرات عليها ظلت قائمة منذ عهد السلطنة الزرقاء فكم من سلطان تآمر على الآخر ليعتلي عرشه لتبقى السلطة في يده ليفعل ما يريد فينهى ويأمر وينكّل بمن يقف في طريقه ، وكان المك نمر الذي أحرق إسماعيل وعسكره إنتقاما ً لكرامته التي أهينت بقذف الغليون في وجهه ولكن ليس لتعدي ذاك الأجنبي على ثرى الوطن .. وجاء الإمام محمد أحمد المهدي بثورة دينية معلناً في الملأ أنه مهدي الله المنتظر الذي أتى ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً ليخلفه الخليفة عبدالله التعائشي الذي بلغت به الجرأة ونشوة الحكم أن يرسل رسالة لملكة بريطانيا يدعوها إلى الإسلام وإلا (فلتشيل شيلتا) فلم تُسلم الملكة فكتوريا ولم يَسلم الخليفة ولا الوطن من جرّاء فعلته … ثم بعد جلاء المستعمر جاءت حكومات وطنية منتخبة وكان عليها إرساء قواعد الديموقراطية لكن هل كان مجئيهم ديموقراطياً حقاً إذا علمنا حقيقة أن الولاء للطائفية هو الذي جاء بهم فما أن يضرب على نحاس آل المهدي ونحاس آل الميرغني ومثلهم آل الشريف الهندي وتوابعهم من مشائخ الطرق الصوفية وأمراء الإدارات الأهلية حتى تصدر الأوامر لتابعيهم وحوارييهم بأن لا تذهب أصواتهم لغير هذا وذاك بغض النظر عن أهلية ذلك المرشّح وما إذا كان صالحاً أم طالحاً .. فقط يُدلَى بالأصوات وفقاً لأوامر السادة وتعليماتهم وإلاّ فإن لعنتهم ستحل بمن يعصي لهم أمراً وما أكثر البسطاء من بيننا من الذين يخشون لعنة السادة وغضب المشائخ!! وعلى هذا النهج يأتون للحكم ليظل الجدال بينهما مستمرا طوال مدة حكمهم ولا يبرح في معظمه محاولات الحفاظ على مكاناتهم ومصالحهم الشخصية لا مصلحة الوطن او المواطن .. فأي إنجازات أحدثوها وما الذي قدمه أي منهم لهذا البلد للسير به قُدُماً في طريق الرقي واللحاق بركب الدول المتقدّمة وهم من قطعوا آلاف الأميال براً وبحراً لتهنئة المستعمر بإنتصاره في الحرب العالمية وخاطبوه والقيد مازال في معاصمهم بكل ما يظهر خضوعهم وتلك الدونية المذلّة وذاك الإنبطاح !! ألم يكن كل ذلك إلاّ من أجل الحفاظ على السيادة وعلو المكانة التي إكتسبوها دون أي جهد ولكن فقط بسبب تخدير شعب بسيط مستكين فعلت به الطرق الصوفية والإدارات الأهلية فعلتها ومازالت برغم إنتشار العلم والمعرفة !!
وجاءت سطوة العسكر ، وفي أغلبها تأتي ومن ورائها أحزاب الطوائف ، فقد جاء الفريق أبراهيم عبود في أول إنقلاب عسكري بعد عامين من جلاء المستعمر وإعلان الإستقلال لينقلب على أول حكومة مدنية منتخبة بعد أن أحس رئيس الحكومة آنذاك الأميرلاي عبدالله خليل ضعف موقف حزبه في الإنتخابات ، إلاّ أن سطوة السلطة قد طغت على سعادة الفريق وصحبه وأستمرؤوا الجلوس على عرشها إلا وأنهم ولو أسلمنا بنزاهتهم وعفّة أيديهم ،لن يُغفر لهم تفريطهم في جزء عزيز من أرضنا بتنازلهم عن مدينة حلفا القديمة وما تمثله من بُعد تاريخي تخلّده تلك الآثار التي أغرقت تحت مياه السدّ العالي الذي لم نل منه إلاّ خيبةً ستظل وصمة عار على جبين من سوّدوا تاريخنا .. ألم يكن كل ذلك من أجل البقاء في السلطة لا لغيرها !!؟ .
ومن بعد عبود جاء إنقلاب جعفر نميري وبرغم تجاوزاته لا يمكن الشك في وطنيته ونزاهته كما لا يمكن في ذات الوقت التقاضي عن كونه كان سلطوياً ودكتاتوراً أراد أن يبقى على كرسي الحكم ولو على جماجم الشعب ولتحقيق ذلك فقد قضى على كل خصومه ودون محاكمات نظامية كما أنه كان يسير متخبطاً في جميع الإتجاهات بدءاً من اليسار إلى اليمين الوسط ثم اليمين المتطرف وتوجّ ذلك بتعيين الترابي نائباً له والذى غدر به في نهاية المطاف بإيهامه بتطبيق الشريعة الإسلامية وإعلان قوانين سبتمبر وتطبيق الشريعة في بلد يشاركه فيه آخرون لا يدينون بالإسلام فقطع الأيدي والرقاب بموجب أحكام قضى بها قضاة غير مؤهلين وكان نتاج هذا الفعل الأخرق تمرّد العقيد جون قرنق وأحتجاج مجموعات أخرى وسرعان ما أعلن عن ظهور ما يعرف بالحركة الشعبية ونشوب الحرب مرة أخرى بين الشمال والجنوب حيث قادت في نهاية المطاف إلى إنفصال جنوب البلاد عن شمالها ولعمري فقد كان ذلك ما كان يسعى لتحقيقه الترابي وأتباعه منذ زمن وقد وفّر نميري لمخطط الشيطان تربة خصبة للنموء فنمأ ليغدو وبالاً على الوطن وشعبه ، فهل دفع نميري إلا جزءاً يسيراً مما عاناه الشعب خلال ثلاثين عاماً من بعده !!
وكما هي الدورة المعهودة بين الأحزاب والعسكر فقد قامت الثورة ضد نميري بعد أن أمضى في الحكم ستة عشر عاماً وبعد تدهور الأمور في البلاد ، لتعود الحزبية على السطح مرة أخرى برئاسة الصادق المهدي وكعادته فقد كان كلامه أكثر من فعله وأنشغل بأمور لا تمتّ إلى هموم الوطن بشيءٍ إذ كانت السلطة فقط هي مبلغ همه فأغتنمت ذئاب السلطة الفرصة التي كانت مؤاتية تماماً ، فلا امن ولا إستخبارات فاعلة ليأتي إنقلاب عمر البشير وهو الأكثر سوءاً من كل ما عرفه الوطن سوى في العهد التركي او عهد الخليفة عبدالله او حقبة الإستعمار أو حتى بعد ذلك .. فقد كان نظام الإنقاذ كما أسموه ليس إنقاذاً بقدر ما أنه نظام كأن من أتوا به لم يريدوا سوى تفتيت هذا الوطن الشامخ وكأنهم ينفذون أجندة لجهات لا تريد لبلادنا خيراً وفي سبيل ذلك فقد أذلّوا المواطن أيّما إذلال فحرموه حقوقه المشروعة وجعلوه يدفع صاغراً فاتورة التعليم والدواء والصحة العامة والجبايات والتي لم يسبقهم إلى فعل مثلها (الباشبزوك) في العهد التركي بل وعملوا على قطع الأرزاق بتطبيق ما أسموه بقانون الصالح العام ليشمل كافة قطاعات الخدمة المدنية ، فتم فصل آلاف الموظفين والعاملين ليحل محلهم آخرون تنقصهم الخبرات ولا مؤهل لهم سوى أنهم منتمون إلى تلك الطغمة فلا غرابة أن تدهورت الخدمة المدنية وانتشر الفساد إنتشار النار في الهشيم ليشمل كل مرافق الدولة ومؤسساتها فلم تسلم من ذلك المؤسسة العسكرية والأمنية بل والحكام وأقاربهم وأصدقاء أقاربهم ونستطيع القول بأن الدولة في عهدهم باتت عبارة عن مجموعة إقطاعيات يمتلكها الولاة والمتنفذون منهم ، فلم يرفعوا للدين لواءاً كما كانوا ينادون لكنهم رفعوا ألوية تمثّل السوء بكافة أنواعه . أيضاً فقد عملوا ، وعن قصد ، على رفع صوت الجهوية والقبلية حتى في كثير من إستمارات المعاملات الرسمية بل وفي الوظائف العامة ويشهد على ذلك ما يسمى بهيئة العمليات التابعة للجيش التي أسسها صلاح قوش . فقد فعل نظام الإنقاذ سيء السمعة كل ما يدعم بقائه في السلطة وفي سبيل ذلك لم يتوانى عن قتل او اغتيالات أو إخفاء أو تشريد أو إفساد أو إغراء وإغواء هذا غير غضه الطرف عن ما أُستبيح من أجزاء الوطن!!
فالحرب الدائرة اليوم بين جنرالين ثار ضدهما الشعب فأزاح نظامهما لا تعتبر بأية حال أنها حرب لمصلحة الوطن او شعبه وإنما هي حرب للاستيلاء على السلطة ، فالبرهان يحاول أن يعيد نظام الإسلامووين للحكم مقابل أن يُحظى بعَظَمة ، وهذا جُل مبتغاه ، مع أنها في الحقيقة ليست بعظَمة بل عظْمة تُلقى إليه إذ لن يكون صاحب قرار . أمّا حميدتي فإنه يسعى للإنتقام ممن غدروا به عبر الإستيلاء على السلطة ومن ثم يتسنى له فعل ما يريد .. هذا همّهم الذي لا هم لهم سواه ودون ذلك فليذهب الوطن إلى الجحيم !!
نحن شعب يصعب فهمه ، نظهر أجمل ما فينا لغيرنا ولا نجود بذلك لوطننا … تسوقنا العاطفة دون غيرها فنثور ضدّ الطغاة ونسقطهم مقدمين في ذلك شهداء من بيننا ثم نعود بعد حين نحنّ للطغيان ، فحين تم جلاء المستعمر كان هنالك من يدندن : ” يا حليل الجيش الرحل و الجروف الصابا المحل ” في الوقت الذي كان فيه العطبراوي يهتف منشداً : ” ياغريب بلدك ” .. قامت ثورة أكتوبر وأسقطت نظام إبراهيم عبود ولم يمض عام فكان كثير ممن شاركوا في الثورة ضده حين يرونه في الأسواق يصفقوا له و يهتفون : “ضيعناك وضعنا وراك ” وكذلك الحال بالنسبة لجعفر نميري بعد أن عاد من منفاه ، فقد إستقبل في المطار إستقبالاً رسمياً وكأنه مازال على رأس السلطة وخُصّص له منزل حكومي ، ومازال كثيرون الآن يجاهرون بحنينهم لعهد البشير برغم الذل والظلم والقهر الذي عانوه في عهده وعلى الرغم من تذمرهم وسخطهم على نظامه قبل أن يتم إقتلاعه !!
هذا هو حالنا وهذه هي حقيقتنا، نصبر على ذُل الحكّام عقوداً ولا يسعنا صبر ساعة على من يقلق راحتنا أو من يحاول إيقاظنا من سُباتنا .. نعشق الحرية و نطالب بالديموقراطية ونلعن الطغاة ، وإذا ما مضوا يسوقنا إليهم الحنين .. ننظف دواخل منازلنا لنرمي بالمخلفات على قارعة الطريق .. ننظف أجسادنا ولا نقصر في ذلك أبداً حتى أننا نتفوق في ذلك على معظم الشعوب غير أننا وللأسف لا نهتم بنظافة نوايانا تجاه وطننا وتجاه بعضنا البعض ، فمتى يأتي من لا يحمل في قلبه همّاً سوى الوطن ومتى يأتي من يبعث في أرواحنا روح الوطنية الحقة ويخرجنا مما نحن فيه وتحكيم العقل قبل العاطفة وإسكات كل صوت بغيض .. فأي جيل يخرج من بينه مهدينا المنتظر الذي يملأ أرض السودان عدلاً بعد أن أخرس صوت العدالة ويعيد للسودان هيبته و مجده الذي يقف على حافة الأفول !!؟ .
هذا ما أراه فإن خالفتكم ما ترون فلكم العُتبى ولكم كل الحب والتقدير .
تمرد قرنق كان مايو 1983 و شريعة نميري تم إعلانها سبتمبر 1983 …. لا يعقل أن يتسبب اللاحق في السابق.
للأسف شعب جاهل اخرق عاطفي سازج لا يستخدم عقله بتاتا كأنه كان غائبا عندما قام الرب بتوزبع العقول علي خلقه….كما قال سعد زغلول: غطيني يا صفية مافيش فائدة، ،،،
تمرد قرنق كما سميته على الأقل سبقته إجراءات وقرارات جعفرية ذات إتجاه ديني منها نظرية (القيادة الرشيدة) ومنع توتو كورة على إعتبارها قماراً وقفل البارات في رمضان ومقدمات دولة دينية حضرناها ولم تغب عنا بمصالحة مع الجماعة المسيلمية ثم تقسيم الإقليم الجنوبي إلي ثلاثة أقاليم بما يتعارض مع إتفاقية أديس أبابا.
يا ماهر باشا نحن نعرف من وكيف دُمر السودان بواسطة ود نكتوت الشبع الناس موت حفيد متمهدي السودان الأول ونسيب متمهديه الأخير.
فبطل محاولات تجريب مهاراتك في الطلس والتدليس في القراء.