أيوا 2025 بين الواقع السياسي ومسؤولية تأسيس دولة لا إسقاطها

مهدي داؤد الخليفة
في ردٍّ على مقال الدكتور خالد كودي المعنون بـ”مؤتمر أيوا 2025: لقاء على أطلال وطن لم يعد موجودًا”، والمنشور بتاريخ 13 أبريل 2025، نجد لزامًا علينا كأطراف فاعلة في الإعداد والتنسيق لمؤتمر أيوا للسلام والديمقراطية أن نوضح عددًا من المغالطات الجوهرية، ونفكك الطرح السياسي الذي ورد في المقال والذي يُروّج لتحالف “تأسيس” بوصفه الخيار الوحيد والقدر المحتوم لمستقبل السودان.
أولًا:
الخلط بين الطرح السياسي والشرعية الأخلاقية يقدّم دكتور كودي تحالف “تأسيس” بوصفه “الواقع الجديد” و”المخرج الوحيد” للسودان، مستندًا إلى القوة العسكرية والميدانية بوصفها معيار الشرعية السياسية. لكن، هل يجوز اعتبار من يملك السلاح هو صاحب الشرعية؟ وهل تغيّرت معايير العقد الاجتماعي إلى هذا الحد؟ إن المبدأ المؤسس للدولة الحديثة يقوم على شرعية الإرادة الشعبية لا شرعية القوة. ومن هنا، فإن تغافل كودي المتعمد عن الوسائل السلمية التي ينادي بها مؤتمر أيوا لا يعدو كونه ترويجًا لنموذج “الحكم بالقوة” لا بالحوار.
ثانيًا:
تحالف البندقية لا يمثل التعددية السياسية تحالف “تأسيس” كما ورد في المقال يضم خليطًا غير متجانس من الحركات المسلحة، بعضها مدان بجرائم تطهير عرقي موثقة دوليًا. فكيف يدعو الكاتب إلى اعتماد هذا التحالف كمشروعٍ وطني، بينما هو ذاته يقر أن مكوّناته لم تُنتخب شعبيًا ولا تمثّل سوى مناطق بعينها؟ إن الفارق الجوهري بين “أيوا” و”تأسيس” هو أن الأول جاء بدعوة مفتوحة للنقاش السلمي بين القوى السياسية والمدنية، بينما الثاني تشكّل بمنطق السيطرة الميدانية دون آلية شفافة للمساءلة أو التفويض الشعبي. ثالثًا:
قضايا تقرير المصير والعلمانية: من يملك حق البت؟ في تناقض واضح، يُشيد كودي بأن تحالف “تأسيس” حسم قضايا بالغة التعقيد مثل العلمانية وتقرير المصير والحكم الذاتي، ويتهم في الوقت ذاته مؤتمر أيوا بالطوباوية لأنه لم يتبنَّ ذات الطرح! لكن السؤال هنا: من يملك تفويض اتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية نيابةً عن الشعب السوداني؟ هل التحالفات العسكرية أم المؤتمر القومي الدستوري المرتقب الذي دعا له ملتقى أيوا؟ لقد نص بيان أيوا بوضوح على أن “البت في قضايا العلاقة بين الدين والدولة، وهيكلة الحكم، والوحدة الطوعية يجب أن تتم داخل مؤتمر دستوري شامل يشارك فيه الجميع”.
رابعًا:
هل تجاهل مؤتمر أيوا تحالف “تأسيس”؟ الاتهام بأن بيان أيوا تجاهل “تحالف تأسيس” هو اتهام مردود عليه. فالمؤتمر دعا في بيانه الختامي إلى وقف الحرب، والجلوس مع جميع الأطراف الفاعلة في الساحة، بمن فيهم حملة السلاح، للوصول إلى صيغة توافقية للانتقال. لكن، الحوار لا يعني التسليم التلقائي بمشروع طرف واحد دون مساءلة. فهل المطلوب هو استسلام سياسي لمشروع “تأسيس” أم حوار شفاف حول مستقبل مشترك؟.
خامسًا:
حكومة بورتسودان: بين الرفض والتجاوز لا أحد يملك الدفاع عن حكومة الأمر الواقع في بورتسودان لكن هذا الواقع لا يُعالج بتأسيس سلطة موازية قائمة على تحالف مسلح آخر. الخيار الثالث، الذي يُعبّر عنه مؤتمر أيوا، يقوم على تجاوز الاستقطاب بين “سلطة الحرب” و”سلطة الأمر الواقع”، باتجاه مشروع مدني شامل.
سادسًا:
عن خطاب النخبة والاتهام بالتنصل من “الهامش” يستخدم المقال لغة شعبوية تُحمّل النخب المدنية والسياسية في المركز وزر كل مآسي السودان، دون أن يشرح كيف يمكن للحركات المسلحة أن تتحول فجأة إلى نموذج ديمقراطي بديل.
إن المحك الحقيقي لأي مشروع سياسي هو قدرته على بناء إجماع وطني، لا على احتكار الخطاب باسم التهميش.
سابعًا:
منهج أيوا: التدرج لا القفز على الوقائع مؤتمر أيوا لم يقدّم حلاً سحريًا، ولم يدّعِ امتلاك خارطة طريق نهائية، بل طرح آلية لبناء توافق سياسي شامل تدريجي، عبر:
وقف شامل للحرب.
تشكيل حكومة مدنية متوافق عليها.
الدعوة إلى مؤتمر قومي دستوري.
إصلاح المنظومة الأمنية تدريجيًا.
إرساء العدالة الانتقالية.
وهذا التوجه لا يعني “الطوباوية” كما يدّعي الكاتب، بل يعني الإقرار بتعقيدات الواقع، والبحث عن حل سلمي قابل للتطبيق.
خاتمة: بين تأسيس “بالقوة” وتأسيس “بالتوافق”
نحن لا نرفض الاعتراف بتحوّلات الواقع، بل نسعى لفهمها وتوظيفها في خدمة مشروع وطني جامع. لكننا نرفض فرض مشروع أحادي بالسلاح دون تفويض شعبي أو توافق وطني. تأسيس الدولة لا يكون بفرض الأمر الواقع، بل بفتح المجال أمام كل السودانيين، بمن فيهم من في معسكرات النزوح، والمهمشين في الهوامش والمدن، لبناء تعاقد سياسي جديد، لا أن يُفرض عليهم.
ولذا نقول بكل وضوح:
نعم للاعتراف بتوازنات القوى.
لا لتأليه السلاح كمصدر شرعية.
نعم لحوار يضم “تأسيس” كطرف.
لا لمشروع يريد إقصاء الجميع باسم “الهامش”.
إن بناء وطن لا يتم بإنكار الآخرين، بل بالاعتراف المتبادل، والجلوس على طاولة الوطن بشروط الشعب، لا بشروط البندقية.
*مهدي داود الخليفة، مقرر المؤتمر العاشر لملتقي ايوا للسلام و الديمقراطية.