مقالات سياسية

هوّنوا على أنفسكم.. حافظوا على قيمكم!!!

دُنْيَا دَبنْقَا

د. نور الدين بريمة

قبْل إبتدار زاويتي الدبنقاويّة هذه، والكتابة في موضوع العنوان أعلاه والاسترسال فيه، أود التأكيد على ما هو مؤكد، بأن السودان زاخر بالتنوع والتباين الإثني والثقافي والإقتصادي والإجتماعي … الخ، فأهل دارفور على سبيل المثال، ظلوا منذ غابر الزمان يمارسون سلطتهم الثقافيّة في الحكم والإدراة، وفي ذلك لهم قيم وحِكم وأمثال شعبيّة، يمتثلون إليها ويحتكمون لها في فضّ المنازعات والخلافات، قالوا في إحداها: (دُنيا دَبنْقا دَرْدُقُو بِشِيشْ)، فأخذت من جزئها الأول، عمودًا ثابتًا، أكتب من خلاله ما أراه معلومة أو رأيًا أو تحليلاً لمجريات الأمور.

بالتالي نقول للذين لا يدركون معنى الكلمة الثانية من جملة (دُنْيَا دَبنْقا): إن الدبنقا عبارة عن حافظة فخاريّة إدّخاريّة، يقمن بصناعتها الأمّهات والحبوبات من طين لازب، في داخل مساكنهن (القطيّة) قبل تشييد الأخيرة، يحفظن فيها محاصيلهن من الحشرات والتلف، مثلها ومثل صوامع الغلال، إحدى المعالم التاريخيّة لمدينة القضارف المضيافة، أو مثلها والمطامير التي يتم حفرها في باطن الأرض، لذات الغرض، فالدبنقا بالطبع يصعب (دردقته)- أي- سحبها أو تحريكها إلى أي مكان، دون إعمال قوة العقل لا قوة الجسد، لذلك شبّهها أهلها بحال الدنيا، التي لابد من إدارة شؤونها بحكمة وتأنّي ورويّة وتُؤدة، حتى لا يفقد مستخلفيها ما عندهم من نعيم ويحيلونه إلى رماد تذروه رياح الاختلاف.

بعد هذه السياحة الثقافيّة، أسمحوا لي أن نسافر جميعًا عبر سياحة أخرى، وزادنا في ذلك قيم النبل والأخلاق الفاضلة، التي تُعد هي الأخرى من الروافع الإنسانيّة المهمّة للتعايش والتحابب، ونبذ القيم المجتمعيّة السالبة والهادمة للمجتمعات، لأن النبل كما يصفه أهل الدربة والدراية، بأن أهله يعيشون كِرامًا، ثمّ يموتون كِرامًا، لأنها تعتبر من صفات العظماء والحكماء، بل هي علامة على عُلوّ الهمّة وشرف النفس، التي تأتمر أحيانًا للسوء.

ظللت أرقب كغيري عن كثب، ما آل إليه حال اللاجئين السودانيّين- وأنا منهم بالطبع- يهلعون ويهرعون في كل شيئ، ومنهم من يعتقد أن حياته ستتغير ما بين ليلة وضحاها، وأنه سيساق عاجلاً، معزّزًا مكرّمًا إلى بلاد الفرنجة- أي الخواجات- (العيونهم خضر)، أو كما كانت تصفهم حبوبتي (فاطمة بت إبراهيم) يرحمها الله ويحسن إليها، ويحسن كذلك إلى الذين فقدناهم طيلة الحروب والأزمات، وعليه فبالرغم من هذه المآسي والحروب اللعينة، فبعضهم جعلها سببًا لإنتهاك الحق الإنساني، وما زال يعتقد أنه من أفضل الشعوب على وجه الأرض، ولا يحترم أبسط نواميس الحياة، ولا يرع إلاً ولا ذمّة، بل تجده لا يريد من الفرنجة إلا منافعهم وخدماتهم، بينما إذا حدّثته عن ضرورة إحترام بعضهم، ثم إحترام الفرنجة، والتعاطي مع حريّاتهم وقوانينهم بإيجابيّة، يأتيك مستكنفًا مستنكرًا وأوداجه منتفخة، ساخرًا ومستعليًا على غيره.

لأهل دارفور حِكمة شعبيّة لأمثال هؤلاء- أي- للذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، حيث يقول المثل (قُوقِيني ومًا تلْمسَ جَعْبَاتِي) أي أن الطفل عندما يبكي، أو إذا أرادت أمّه أن تقوم بنشاط ما، تقوم بوضعه على ظهرها، وربطه بقطعة قماش، لتأمينه وإسكاته من البكاء، فتضع يديها على مؤخرته، عندما تهم بربطه حتى لا يسقط، وحينها يأخذ الطفل سكينته وراحته، وسرعان ما ينام على ظهرها الدافئ، فحال الطفل هذا أشبه بحال كثير من السودانيّين مع الخواجات، وكل من يحمل ثقافاتهم، فهم يريدون منافع بلادهم وخيرها، وفي المقابل لا يقبلون بقوانينهم وثقافاتهم، وفي ذلك أمثلة كثيرة عن بعض الذين أصبحوا سكانًا في تلك البلاد، يذهبون إلى بلاد الفرنجة طامعين في نعيم إنسانيّتهم وحريّاتهم، لكنّهم يأنفونها ولا ينعمون بها لمّا يعودوا إلى بلادهم.

جئنا لاجئين إلى دولة يوغندا العزيزة، باحثين عن السلم والأمان، وبعضًا من الخدمات الأخرى، لكنّ بعضنا ناكرين لجميلها وقيمها وثقافاتها، إذًا بدءًا دعونا نشكر ونقدّر ونثمّن عاليًا جهود هذه الدولة الحبيبة- حكومةً وشعبًا- وهي تفتح أبوابها مشرعة، لتستقبلنا وتحتضننا في أرضها البتول، ونحن هاربون من فوهة البنادق وأتون الحروب والصراعات والمسغبة، التي أفقدتنا كثيرًا من الموارد البشريّة والماديّة، فجعلتنا هائمين على وجوهنا، باحثين عن الأمن من الخوف والجوع، بيْد أن هذا الحال ليس دافعًا منطقيًا لترك قيم المحبّة والسلام والإحترام، والتزيّي بسلوك النرجسيّة والإستعلائيّة والإستخفاف بالآخرين- أي- حتى بالذين آوونا وحفظونا في بلادهم.

الأمر الثاني، منذ مجيئنا إلى يوغندا- أي منذ عامين تقريبًا- لم نعلق أو نكتب رأيًا أو كلمة، عمّا يدور في قروبات اللاجئين إلا لمامًا- أي إلا في بعض الحالات النادرة- التي ربما قد لا تحسب- على الرغم من تنامي خطاب التعالي والنرجسيّة، وجريان الكثير من المياه الآسنة تحت جسر التناقضات والتنازعات، سيما ذاك الهرج والمرج والحديث الذي ظل يدور حول ما تقدمه منظمات الغوث الإنساني، وآخرها منظمة (Give Direct- أي أعطي مباشر)، فيما يتعلق بمنحتها المالية للاجئين، ربما ذلك إستفز قلمي ودفعني إلى المساهمة بهذا الرأي، الذي قد يحتمّل الصواب أو الخطأ، وكتابي هنا ليس مقصورًا على ما دار في تلك المنظمة، بل أعني به ما أعني من تبدّل للقيم والمثل، وإستعلاء الأنا، التي خرّبت عقول بعضنا، وما زالوا يردّدون ويستعجبون: (كيف يكون الحال لو ما كنت سوداني!) يا سبحان الله.

أولاً، علينا أن ندرك أن ما تقوم به المنظمات، هو في إطار الكفالة والمساعدات الإنسانيّة وليست حقا ملزمًا بالمعنى الحرفي لمفهوم الحقوق، مثلما يتراءى لبعضنا، بل هي منح ومساعدات كما ذكرت آنفًا، والمنح مثلها ومثل الصدقات، تقل أو تزيد، أو يمكن ان تتوقف، وهنا تكمن الحقيقة التي تغيب عنا، يجب أن نمعن النظر فيها، ونعلي من الحكمة في التعامل معها، مما تتطلب منّا عدم الإنجرار والتمترس خلف عبارتي (الحق والالزام)، وضرورة التعاطي معها في هذا الاطار، نعم المنظمات يمكن ان تخطئ، لانهم بشر في نهاية المطاف، ولكن مطالبتنا بوقف الأخطاء لا تكون بهذه المخاشنة والإتهام، وهذا لا يعني السكوت عن الأخطاء، بل لابد من البحث لإيجاد طرق أخرى، تتماشى مع فهمنا الصحيح للمنح والمساعدات، والتي لا تعكس إحساسًا بالتعالي والذاتيّة، مثل (نحن سودانيون ما في زول بشبهنا، ونحن ناس القانون وشراعه، وبنعرف حقنا كويّس، وبنجيبوا من فك الأسد)، وغيرها من التعليقات، التي نقرؤها عبر وسائط التواصل الإجتماعي المختلفة، فطريق الدبلوماسيّة خير لنا من طريق المخاشنات الجسديّة واللفظيّة.

عفوًا عزيزاتي أعزائي، أحيلكم ثانية لناس دارفور وأمثالهم وحِكمهم الشعبيّة، التي تحكي عن تجارب حياتهم، فلهم حكم تعبّر عن حال بعض الذين أقرأ تعليقاتهم، عندما لا يحالفهم الحظ، او لا يتمكنون من الحصول على بعض الخدمات، فالحِكمة تقول: (ثلاثة أمْ قُبْقم أشطر منهم)، وللذين لا يعرفون (امْ قُبْقُم) بلغة أهل دارفور، هي طائر البوم الذي يتشاءم منه بعضنا، ويعتقدون فيه الغباء، لكنّي عذرًا سأذكر من هذه الحكمة الجزء الذي يعنينا في هذا السياق، وسأترك الإثنين في مساحات قادمة، إن كان في العمر بقيّة، حيث تقول: ( في زول بيكون عايز قروش من زول، فالثاني يجيب بعض منها للأول، ويعتذر قائلاً معليش جِبْتَ ليك جزء منها، لكن الأول يقول للثاني وهو كظيم: ما عايزها إلا تجيبها لي كلها)، فأرجوا ألا يكون البوم أشطر منّا نحن بني البشر، أو كما ذهبت الحكمة.

ثانيًا، حذاري ثم حذاري من الوقوع في براثن- ثنائيّة الإستعلائيّة والنرجسيّة وحب الذات- وعدم حبّ الخير للآخرين، وغيرها من القيم الفاسدة البالية، التي ظللنا نتعاطى معها دون أن يطرف لنا جفن، أفسدنا بها بلادنا، وما زال بعضنا أسيرًا عندها، بل يحملها ويسوّق لها، وهي بالتأكيد بضاعة فاسدة، ستُرد إلينا إنكسارًا وفقرًا وإزدراءًا، وأمثلتنا في القيم الفاسدة كثيرة، نقدم بعضًا منها، مثل: (عدم إحترامنا بعضنا؛ التزاكي على بعضنا والآخرين، بأننا شعب غير، لإعتقادنا بأننا أكثر معرفة ووعيًا وذكاءًا وشطارة، بينما غيرنا دون ذلك؛ أخذ حقنا وأخذ ما ليس حقنا؛ ثم الإستخفاف والإستهزاء بثقافة الآخرين).

تلك بعضًا من الامثلة والسمات السالبة، التي كتب عنها مُهتمّون بعلم الإجتماع، أشاروا فيها إلى أن السوداني يحمل كثيرًا منها، أفسدت عقولهم وأقعدوا وأهلكوا بها العباد والبلاد، وما حرب (١٥ أبريل ٢٠٢٣م) الأخيرة، إلا برهانًا ودليلاً ساطعًا لما ذهبنا إليه، ونحن في أمس الحاجة إلى تركها، والتسلًك بالقيم الإنسانيّة الفاضلة، المحضّة على نبذ العنف الجسدي واللفظي، وترك خطاب التشفي والكراهيّة، وإعلاء قيم: السلام، التحابب، التوادد وإحترام الآخرين، سيما أؤلئك الذين يختلفون عنّا: دينًا، لغة وثقافة، ممّا يلزمنا أن نقدّم أنفسنا، ونسوّق لقيمنا وثقافاتنا الفاضلة، بطريقة إيجابية، لأننا شحيحون في طرح أنفسنا بالشكل الصحيح، وفي نهاية المطاف نحن سفراء لبلادنا، التي حتمًا سيعود إليها بعضنا طال الزمان أم قصر.

فالإنسانية تعتبر نفاجًا للفضيلة، والتي تعني: أن يكون الإنسان فاضلاً وخيرًا، ومحبًا لهما وللبرّ وعاملاً بها؛ أيضًا الفضيلة تعني نقاوة النفس، والسير في طريق الله، وتعني أيضًا قوّة لا ضعفًا في النفس، أي القوّة التي تمكنها من الإنتصار على نوازع الشر وإغراءاته، وممارسة الحياة البارّة؛ لأن ما يقوله الإنسان النبيل الفاضل من أقوال، أو ما يؤدّيه من أفعال، ينبغي أن تبعده بقدر الإمكان عن إيذاء الناس، وأن ما لا يرضاه على نفسه، ينبغي ألا يرضاه على غيره، لذلك علينا أن نضع أنفسنا دومًا في موضع الآخرين، ونقدر شعورهم، ونحاول فهم مواقفهم، وكسبهم قبل كسب مواقفهم، وألا نفكر من منظورنا الشخصي فقط.

أخيرًا دعوتي إلى كل الفاعلين في قيادة مجتمع اللاجئين بضرورة الإهتمام بجلسات المثقافة، ورفع الوعي وسط مجتمعاتنا، وتعريفها بحقوقها وواجباتها، ونشر ثقافة التسامح والسلام والاحترم، فضلاً عن رفع وعيها بقوانين اللجوء وكيفية التعاطي مع الآخرين، خاصة المجتمع المضيف، والمنظمات العاملة، وغيرها من الخيرين الذين يمدون لنا يد العون، إلى أن يعود إلى الوطن من عاد، ويهاجر من هاجر إلى بلاد الدنيا، وبقي من بقي في بلاد الحب والجمال.

[email protected]

تعليق واحد

  1. مقال قمة في الذوق والرقي والانسانية – مشكور على الاحاطة الجميلة اهديت فيه القراء كيف يجب ان يكون حال المسلم المؤمن او حال الانسان وتعامله مع الانسان . وصراحة عظم وطول “الأنا” المتفجرة عند البعض لن تمكنهم من عبور وتجاوز اي باب الا باب واحد باب الشيطان والعياذ بالله
    قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ” سورة الأعراف آية:12

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..