مقالات سياسية

ردّ على مقال نجم الدين دريسة: أزمة العقل العشائري. ولعلها أزمة العقل الرعوي او أزمة العقل السوداني

د. أحمد التيجاني سيد أحمد


شكرًا للأستاذ نجم الدين دريسة على مقاله العميق والمثير للتأمل حول “”أزمة العقل العشائري””، الذي استنطق فيه واقعنا السوداني بعين فاحصة، تربط بين قوى البنية التقليدية وارتباكها أمام الحداثة، وتُبرز بوضوح مأزق الانتقال من طور العشيرة إلى مفهوم الدولة الحديثة.

أتذكّر إحدى زياراتي إلى السودان في أوائل ثمانينات القرن الماضي و انا عايد في عطلةً قصيرة من مهجري في كالفورنيا . حينها التقيت في مطار الخرطوم برجل خمري اللون(حلبي)، متلفح بعباءة بيضاء، يعتمر شالًا، وينتعل حذاءً من جلد نمر أصلي من الأبيض. كان يلوّح بعصا ضخمة معقوفة الرأس، يضرب بها الأرض أمام جموع السودانيين المتدافعين في مواسم الهجرة للخليج، صارخًا من أعماقه: “أنا سوداني… سوداني… سوداني!”. كأنه كان يقنع نفسه – قبل أن يقنع من حوله بعودة الي  هوية غير منشودة،إذا لم يفوز  بعقد عمل في الغربة، أو بما صار اليه بعد عودة خايبة فقد عندها كل الامال التي بناها للانصهار في “بني جلدته” المزعومة، كما بشر بها بعض مثقفي منتصف القرن الماضي ، وعلى رأسهم حسن نجيلة، الذي طاف ببوادي وأرياف البلاد العربية مقسِمًا بقريش وهاشم بان كل ما راي و سمع دليل علي ان بلاد السودان الشاسعة عربيٌة عربية عربية حتى النخاع.

ولكن هذه ليست كل جذور “العقل الرعوي” الذي اسهب الدكتور النور حمد في وصفه ؛ أو “العقل العشائري”، كما انتقيتَ يا أستاذي نجم الدين دريسة.  لا يهم من أين، وبأي مقدار أو نوع، تأتي اللوثة؛ فهي لوثة، أيًا كانت، دخيلةٌ على العقل والمنطق المكتسبة.

العقل الرعوي ليس حكرًا على قوم دون غيرهم، بل هو بنية ذهنية – نمط تفكير جمعي – يتجاوز الأصل والعرق، ويغشى العقول حيثما تعطلت أدوات النقد. لقد زرت عشرات البلدان الإفريقية وغيرها، ووجدت مجتمعات الرعاة والمزارعين المستقرين فيها ينظّمون حياتهم وفق تقاليد متوارثة، تنبع من رأس كبيرهم – الأمزي – إلى أصغرهم – النركوك. وقد بلغ بهم الغلو في الحفاظ على إرثهم أن يحتفظوا ببودرة عظام زعمائهم في قنينات خشبية مقدسة، تُذر احتفائيًا في مشروب الضيوف من أصحاب الشأن.
قال لي صديق  زميلي بالامم المتحدة وبرفيسور في علوم الوراثة بجامعة مدريد الإسبانية العريقة بعد زيارة علمية الي مجتمعات قبلية  في امريكا الجنوبية: “شربتُ مشروب العظام!” فكيف لي أن أستهجن تقليدًا موصولًا امتد قرونًا وعصورا؟”

هذا الموروث، حين يتحول من ذاكرة جماعية إلى منظومة سلطوية تعيق التجدد، يصبح عبئًا، ويحول دون التحول إلى الدولة الحديثة. وهذا تمامًا ما نعيشه في السودان. إن أزمة “العقل السوداني” تتجلى في تأرجحه الدائم بين نقيضين: فهو يتقافز ويتباعد ويقترب من كل المسافات والخيالات، كما أرادت له حفنة من “مثقفي دولة ٥٦”، الذين ظلوا – ولحسن حظ السودان الجديد – محصورين اليوم في شراذم مصطنعة، تتخفى خلف مسميات وهمية، وتدّعي الانتساب إلى “الشريفة بنت الرسول”، حاشاها، وهي لم تكن معنية بهذا المشروع لا من قريب ولا بعيد.

ولعل من أبرز الأمثلة التاريخية التي تفضح تواطؤ هذه النخب المركزية مع “”مشروع الإلغاء الرمزي”” او “”التطهير العرقي “”، ما جرى في مطلع ستينات القرن الماضي، حين خرج النوبيون – وتحديدًا الحلفاويون – في مظاهرات سلمية احتجاجًا على تهميشهم، وتهشيم حضارتهم، ولغتهم، وإغراق موطنهم بفعل بناء السد العالي حسب أوامر النظام المصري. لم يكن احتجاجهم ماديًا فقط، بل كان صرخة للدفاع عن هوية ضاربة في عمق أكثر من عشرة آلاف عام من الوجود الثقافي واللغوي المتواصل. غير أن نخب نادي الخريجين، اسري دعوي انتماء عروبي مخزي ،  بدلًا من التضامن، تندروا على لغتهم، وسخروا من مظاهراتهمً، واحتقروا احتجاجهم. تلك كانت لحظة فارقة كشفت هشاشة النخبة السودانية المركزية، وانفصالها عن واقع التنوع السوداني، بل وتواطؤها الصريح مع مشروع تعريب قسري وإقصاء ناعم.

ولست بعالم أنثروبولوجيا، لكنني أرى أن عدم الإحساس بالوجع العميق الذي أصاب النخب المهجّرة والمقصاة هو الذي مهّد لأن يصبح “التخرطم” معيارًا “للحداثة” ورفعها كراية في وجه كل تنوع اوكتلك التي  البسها مسيلمة المثقفون لجيش فلول الكيزان في بداية الحرب. وقد ورثت هذا النهج  دعاةً  الإسلام السياسي، حين زيّنوا للجيش الكيزاني المودلج  الخروج للحرب الأخيرة في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ تحت راية مليشيات “البراء”، و نافع و علي عثمان و فلنقايات الجيش مدججين بالقنابل والبراميل الحارقة – مصرية وإيرانية وحماسية المصدر – التي دمرت “”سما الخرطوم””، بعد أن اعتادت على حرق سماوات الجنوب، والأنقسنا و البرون  والفونج، ودارفور، وكردفان بجبالها وسهولها ومراعيها وهشابها و سعيتها و مراعيها!

وقد بلغ الانحدار ذروته عندما صارت “”سما الخرطوم”” – كما رآها الشاعر صلاح أحمد إبراهيم – فضاءً لا تُعلّق عليه رايات الحلم، بل تُعلّق فيه خيبات الوطن. كانت “سما الخرطوم” عنده رمزًا للشهادة، للكرامة، لحزنٍ نبيل متوهج بالرجاء، فإذا بها اليوم تُخرق برصاص البراميل، وتُخنق بدخان الحقد، وتُغتال من سماءٍ اراد لها البعض ان تكون  في يوم ما مظلةً للحرية.

وفي مقام آخر، لا يمكن الحديث عن “سما الخرطوم” دون استحضار ما منحها إياه فنان الشعب محمد وردي من حياةٍ ودفءٍ في صوته وغنائه. ففي أشعاره المغنّاة، كما كتبها محجوب شريف وآخرون، كانت “سما الخرطوم” ليست مجرد طقس أو مشهد، بل كانت ذاكرةً حيّة للحب، والوطن، واللقاء:

“يا سما الخرطوم يا زرقا
ويا عيون أحبابنا اللمّاحة
يا عيون بلدنا الواسعة
يا ريدتنا الورّاقة في جناينا”

في غناء وردي، كانت “سما الخرطوم” وعدًا بلقاء العشّاق المشتتين، ومظلة للحلم المدني الديمقراطي العولمي الذي لم يتحقق ورمزًا لوطن لا يزال يُولد من رحم الأمل، رغم قسوة التشظي. كانت مساحة تُخاطب فيها السماء ليس من ضيق، بل من اتساع، وتُغنّى فيها الحرية لا كشعار، بل كعيشٍ يوميّ، كما في “بناديها” و”يا شعباً لهبك ثوريتك”.

لقد أشعلوا الخرطوم  لا بوصفها عاصمة جغرافية، بل لأنها كانت مرآة مشروع دولة فدرالية لم تكتمل. ولأنها – كأفق صلاح أحمد إبراهيم – اختزلت المعنى الأسمى للانتماء الوطني. فمَن يغتال “سما الخرطوم”، لا يغتال طوبةً ولا نخلة، بل يغتال ذاكرة وشهادة ومآذن صوتها كان يرتجف من صدق الناس.

وختامًا، فإن العقل العشائري أو الرعوي – كما وصفه الأستاذ نجم الدين دريسة – لا يمكنه أن ينتج دولة حديثة، ما دام يتغذى على ثقافة الاستعلاء الإثني، والارتهان للقبيلة، والإقصاء باسم اللغة أو النسب أو “المظهر الحضاري”. إن المشروع الحداثي لن يرى النور ما لم نمنح العقل النقدي مكانته، ونفسح المجال للشباب والنساء، والمهمشين ثقافيًا، كي يعيدوا تعريف هويتنا، لا بالتخلي عن تراثنا، بل بإعادة تأويله بما يتسق مع قيم الدولة والمواطنة والعدل، لا مع سلطة الجماعة ونزعة الوصاية الأبدية.

كسرة: مشروع الإلغاء الرمزي

ليس كل محوٍ يبدأ بجرافة… أحيانًا يبدأ بسخريةٍ من لغة، أو تندرٍ على زي، أو تجاهلٍ متعمّد لتاريخٍ لا يُروى في مناهج المدارس. مشروع “الإلغاء الرمزي” هو ما فعلته نخب المركز، حين تواطأت مع تعريبٍ قسري، واغترابٍ عن الذات، ومسحت أعينها عن حضاراتٍ ضاربة في الجذور، لا لشيء سوى أنها لا تُشبِه “قريش”. حين يُغرق السد العالي الأرض، وتُغرق النخبة ذاكرة المكان، لا يكون ذلك فِعل إنماء… بل جنازة للهوية، تُشيّعها قصائد مدفوعة الثمن.


د. احمد التيجاني سيد احمد
١٦ أبريل ٢٠٢٥  نيروبي/ روما

تعليق واحد

  1. كلما أقراء لك مقال اتزكر مقالك عن صندل الكوز كامل الدسم اتأكد تماماً ان مشكلة السودان هي افرازات الدكتاتورية و الايديولوجية و القبلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..