مستقبل السودان بين نصرين مُرّين

نبيل منصور
منذ إندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023م بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لم تعد الأسئلة تقتصر على “من سينتصر؟” بل إمتدت إلى “ماذا بعد الانتصار؟” و”أيّ سودان ينتظرنا بعد هذا الدمار؟”.. فالمأساة لم تَعُد فقط في مشاهد الخراب والنزوح بل في أن خيارات المستقبل تبدو محصورة بين قوتين تمثلان في جوهرهما نقيض أحلام الشعب السوداني في الحرية والعدالة والسلام..
قوات الدعم السريع التي خرجت من رحم مشروع أمني عنصري رعته الدولة الإسلامية في دارفور تطورت من مليشيا قبلية إلى قوة عسكرية موازية بل ومتفوقة على الجيش في كثير من الجبهات وقد نجحت بدعم خارجي واضح (خصوصًا من الإمارات) في السيطرة على مساحات واسعة من العاصمة في مرحلة ما ومناطق أخرى واسعة من الجزيرة ودارفور لكن هذا التمدد لا يعكس بالضرورة قبولًا سياسيًا أو شرعية داخلية بل يعمّق المخاوف من تحول السودان إلى دولة تحكمها المليشيا بمنطق الغنيمة والقوة العارية وسط إتهامات موثقة بإرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية..
في المقابل يقف الجيش الذي كان يُفترض أن يكون مؤسسة وطنية جامعة وهو يعاني ويئن من إختطافه من قبل فلول النظام السابق ،، بل أعادت هذه الحرب إلى الواجهة تحالفات قديمة بين جنرالات الجيش وقيادات الحركة الإسلامية بشكل واضح رغم محاولات قادته نفي ذلك .. ظهرت في الخطاب الاعلامي لهذه الحرب وفي حملات التعبئة العسكرية وفي عودة رموز النظام البائد إلى المشهد السياسي تحت يافطة “دعم القوات المسلحة” وفي حماية بعضهم من مطالبات قانونية سواء داخليا او خارجيا .. وهو ما يجعل إنتصار الجيش لا يُقرأ كإستعادة للدولة بل كعودة محتملة وأكيدة لنظام القمع والتمكين عبر نسخة جديدة من التحالف الأمني-الإسلامي ..
هنا تكمن المفارقة القاتلة فالسودانيون الذين ثاروا في ديسمبر 2018م لأجل دولة مدنية عادلة يُفرض عليهم اليوم الإختيار بين جيش يعيد إنتاج الديكتاتورية بوجه مألوف ومليشيا تهدد بنسف ما تبقى من مؤسسات الدولة .. وبين هذا وذاك تدخل خيارات الشعب وقواه الثورية في امتحان صعب حيث يُراد للبلاد أن تُحكم بمنطق السلاح لا بالشرعية .
مستقبل السودان إذا إنتصر الدعم السريع ،،
في حال إنتصار قوات الدعم السريع على الجيش فإن السودان سيدخل طورًا جديدًا من الفوضى المقننة لا مرحلة استقرار أو بناء دولة .. فرغم القوة العسكرية التي أظهرتها هذه القوات في ميادين المعركة إلا أنها تفتقد إلى المقومات الأساسية لأي سلطة قابلة للاستمرار وخصوصا فيما يتعلق بالشرعية السياسية والهيكل الإداري للدولة والبعد الوطني .. وأول ملامح هذا المستقبل سيكون الحكم بمنطق الغلبة .. الدعم السريع لا يملك مشروعًا سياسيًا واضحًا حتي وإن تحالفت معه قوي أخري كما حدث في نيروبي فإن ذلك لا ولن يعبر عن رؤية وطنية شاملة إذ أن هناك الكثيرون خارج هذا التحالف بل ولهم آراء وحجج قوية لعدم مشاركتهم هذا التحالف .. ولان الدعم السريع يتحرك بمنطق القوة والسيطرة ستصبح علاقته مع حلفاءه علاقة توزيع للغنائم ودفع الثمن وهي سمة معظم المليشيات كما لا ننسي حجم الشكوك حول إرادته المرهونة لقوي خارجية .. وحتى إذا حاول تشكيل حكومة أو أي شكل من أشكال الإدارات المدنية فإن هذه الأجسام ستكون ديكورًا يغطي على سلطة قمعية تُدار من المركز بواسطة السلاح ومن الأطراف عبر تحالفات قبلية ومناطقية هشة .
ثانيًا ،، هناك خطر الانفجار الداخلي داخل الدعم السريع نفسه فهذه القوات لا تقوم على تجانس مؤسسي بل على شبكة معقدة من الولاءات القبلية والمصالح الشخصية ،، وإذا إنتهى العدو الخارجي (الجيش) فقد تتفجر الصراعات داخلها حول من يتحكم ومن يحصد الغنائم خصوصًا إذا تقلص الدعم الخارجي أو تغيرت موازين التحالفات الإقليمية.
ثالثًا ،،المقاومة الشعبية والمدنية ستتنامى لا سيما من قوى الثورة التي تعتبر الدعم السريع امتداداً للعنف الممنهج الذي بدأ في دارفور وأستُجلب لاحقاً إلى الخرطوم ،، وقد تتخذ هذه المقاومة أشكالًا متعددة من العمل السلمي إلى الكفاح المسلح المحلي خصوصًا في الولايات التي لم تدخل تحت سيطرته أو ترفض مشروعه مثل شرق السودان أو شماله .
رابعًا،، العزلة الإقليمية والدولية،، حيث يصعب تخيّل إعتراف عالمي بسلطة نشأت عبر حرب شعواء وإرتبطت بتقارير دامغة عن جرائم تطهير عرقي وإغتصاب ونهب .. قد تتعامل بعض الدول مع هذه السلطة الواقعية كأمر واقع (خصوصًا دول تبحث عن نفوذ أو مصالح) لكنها ستظل سلطة منبوذة ومحرومة من الدعم الاقتصادي والسياسي طويل الأمد ما يضعف إستقرارها .
في هذا السيناريو ،، يصبح السودان دولة بلا دولة تحكمها مليشيا تسعى لفرض سلطتها على وطن مفكك وسط مقاومة داخلية متصاعدة وبيئة إقليمية متوجسة .
مستقبل السودان إذا إنتصر الجيش،،
أما في حال إنتصار الجيش فإن المشهد لا يقل قتامة وإن اختلفت أدواته .. فالجيش الذي يفترض أن يكون حاميًا للدولة لا يبدو اليوم مستقلاً أو منحازًا لمشروع وطني جامع بل يخضع بشكل متزايد لنفوذ تيار الإسلام السياسي لا سيما بقايا النظام البائد الذين وجدوا في الحرب فرصة لإعادة إنتاج سلطتهم التي أسقطتها ثورة ديسمبر .. الإنتصار العسكري للجيش لن يعني إستعادة الدولة بل إستعادة النظام القديم بوسائل يُراد لها تكون جديدة .. فقد ظهر جليًا خلال الأشهر الماضية حجم التغلغل الإسلامي داخل المؤسسة العسكرية من حيث الخطاب والتعبئة والتنظيم ،، وتحوّلت الحرب في خطاب قادة الجيش وحلفائهم إلى معركة عقيدة تم توظيفها لتبرير القمع وإستبعاد كل صوت معارض بما في ذلك القوى المدنية الثورية رغم محاولات إخفاء ذلك .
إذا انتصر الجيش يُرجَّح أن يتجه إلى فرض “تسوية” على مقاسه يُعاد عبرها بناء النظام السلطوي بواجهة “إنتقالية” شكلية تقود إلى إنتخابات محسومة مسبقًا وتُقصى منها القوى الحية التي قادت الثورة بحجة “الواقعية السياسية” أو “حفظ الأمن”،، وسيُعاد تمكين الإسلاميين في مفاصل الدولة من القضاء إلى الإعلام إلى الإقتصاد بما يشبه نسخة ثانية من الإنقاذ ولكن بثوب عسكري أكثر فجاجة .
كما أن هذا الإنتصار سيكون مقدمة لمرحلة جديدة من الإقصاء والقمع لا سيما في مناطق الهامش حيث سيرى كثيرون في عودة الجيش/الإسلاميين إستمراراً لنهج المركز الإقصائي الذي عمّق التهميش لعقود وهذا بدوره قد يفتح الباب أمام تمردات جديدة أو حركات مسلحة تنبع من الإحساس بالخذلان والظلم .
في هذا السياق سيكون من الصعب بناء سلام أو وحدة وطنية حقيقية إذ إن السلطة المنتصرة لا تؤمن بالشراكة ولا بالتحول الديمقراطي مهما تعالت صيحاتهم وكثر ضجيجهم حول ذلك ،، بل ستسعى السلطة المنتصرة لإستثمار “النصر” لقمع الخصوم وتثبيت وضع مغشوش يسمّى “إستقرارًا” بينما تُكمم فيه الأفواه وتُغتال فيه روح أي تغيير مطلوب .
البديل الثالث: صوت الشعب وقوى الثورة،،
في ظل هذا الإستقطاب الثنائي القاتل بين مليشيا تسعى لشرعنة السلاح وجيش مختطف يعيد إنتاج الإستبداد يبرز صوت ثالث لا يزال حيًّا رغم القمع والحصار ،، صوت الشعب السوداني وقوى الثورة التي لم تنكسر .. هذا الصوت لا يراهن على نصر عسكري لطرف بل على هزيمتهما معًا سياسيًا وأخلاقيًا وعلى إعادة تعريف المستقبل بناءً على تطلعات من فجّروا ثورة ديسمبر المجيدة .
البديل الحقيقي سيأتي من القواعد الشعبية ومن لجان المقاومة والنقابات والمبادرات المدنية التي لم تتورط في خطاب الحرب ولا باعت نفسها لأي من الطرفين ،، وقد ينحاز إليها بعض من يحملون البنادق رغم ضعف هذا الإحتمال لدي البعض ،، هذه القوى رغم تراجع حضورها الإعلامي بسبب ظروف الحرب والشتات لا تزال تحمل مشروع الدولة المدنية الديمقراطية الذي يقوم على،،
• تفكيك البُنى المليشياوية والعسكرية وبناء جيش وطني موحد بعقيدة وطنية لا أيديولوجية .
• إزاحة منظومة الفساد والتمكين سواء بلباس الدعم السريع أو عباءة الإسلاميين .
• العدالة الشاملة لمحاسبة مجرمي الحرب والانتهاكات دون انتقاء أو مساومة .
• مشروع وطني تشاركي يقر بالتنوع ويعيد بناء الدولة على أساس المساواة والمواطنة .. صوت الثورة هذا ليس مجرد شعار بل هو الإمكانية الوحيدة لبناء سودان لا يُحكم بالبندقية ولا يتحكم فيه محور خارجي .. وقد بدأت بالفعل جهود في الداخل والخارج لتوحيد هذا الصوت رغم التحديات والانقسامات بهدف طرح “بديل ثالث” لا يقبل بسلطة الدعم السريع ولا يعترف بشرعية الجيش المختطف ..
والرهان الآن على معركة الوعي والتنظيم والضغط السياسي لفرض مسار جديد لا تديره البنادق بل الإرادة الشعبية .
خاتمة ،،أيُّ نصرٍ هذا ؟ ،،
في لحظة كهذه يصبح السؤال الأهم ليس “من سينتصر؟” بل “ما قيمة هذا النصر؟”
فإنتصار الدعم السريع يعني سقوط الدولة في قبضة مليشيا وإنتصار الجيش يعني ارتدادًا كاملاً إلى الإستبداد الذي ثار عليه السودانيون .. كلا الإنتصارين لا يقدّمان للسودان سوى مزيد من الإنقسام والدمار والإرتهان ،،
لكن الشعب الذي أسقط نظام الإنقاذ بصدورٍ عارية لا يزال قادرًا على صناعة طريق ثالث لا يمر عبر الخرطوم المحروقة ولا عبر مقارّ قيادات الحرب بل من أحياء المدن والقرى والمنافي حيث يُصاغ مشروع جديد للسودان عنوانه ،،
لا للدعم السريع ،، لا لحكم العسكر ،، نعم لسودان مدني ديمقراطي حر .
قد تبدو المعركة غير متكافئة وقد يخفت صوت الثورة وسط ضجيج السلاح لكن التاريخ علّمنا أن الشعوب لا تُهزم إلا حين تستسلم .
والسودانيون برغم الجراح لم ولن يستسلموا .
شكرا على هذا الطرح المليء بمخزون فكري عالي لخص الازمه الراهنة وخياراتها المنطقيه. برافو يااستاذ.