بين اللستك والبندقية

حافظ يوسف حمودة
ما بين “اللستك” والبندقية… البرهان يشعل الذاكرة السياسية
في مؤتمر الخدمة المدنية ، أطلق الفريق أول عبد الفتاح البرهان تصريحًا لم يكن عابرًا ، بل أشعل الوسائط الإعلامية وأعاد إلى الساحة مناخًا سياسيًا كاد أن يخفت تحت رماد الحرب . كلمات البرهان ، كأنها صفارة إنذار ، أيقظت ثوار ديسمبر واصحاب الرصة والمنصة من سباتهم الطويل ، وأعادت للواجهة مشهد “اللستك” المشتعل ، ذاك الرمز الثوري الذي أسقط نظام البشير وأعاد تشكيل الوعي الجمعي للسودانيين .
لم يكن البرهان بحاجة لأعداء جدد ؛ فخصومه يحيطون به من كل جانب . لكنه – على ما يبدو – أراد أن يوازن خطابه بين رسالتين : واحدة موجهة ضد تيار الإسلاميين ، وأخرى ضد خصومهم الثوار لتطمئن مَن يخشون انحيازه لطرف دون آخر . أراد أن يقول : “أنا على مسافة واحدة من الجميع” ، لكنه في ذات اللحظة ، أعاد فتح جراح الصراع المدني – العسكري ، وهو جرح لم يندمل بعد .
الرد والردم لم يتأخر . خرج صوت الشارع من جديد ، ساخنًا ، غاضبًا ، ناقدًا . كثير من الثوار رأوا أن تغليب البندقية على الإرادة المدنية هو انتكاسة أخلاقية وسياسية لثورة ديسمبر وشهدائها والدولة المدنية ، التي لا تقوم إلا على ديمقراطية تحترم صوت الشعب ، وتمنح القرار لمدنيه ، لا لعسكره .
لكن الحقيقة المُرّة أن السودان ، في لحظته الراهنة ، أحوج ما يكون إلى شعبه وجيشه معًا . ليس ليختار أحدهما ضد الآخر ، بل لينهض بتكامل الطرفين في معركة بقاء وطني . هذا الشعب الذي أسقط دكتاتورية ثلاثينية ، يستحق أن يحميه جيش محترف ومخلص ، وأن يدعمه في حربه ضد ميليشيا تمرّدت على الدولة ومزّقت نسيجها الاجتماعي .
إن السودان اليوم لا يحتاج إلى اصطفاف أعمى ، بل إلى “لستك” يذكّرنا بجذوة الثورة ، و”بندقية” تحفظ الدولة من الانهيار . دولة مدنية ، نعم ، لكن بسند شعبي ، وبمؤسسة عسكرية لا تتغول على الحكم ، بل تحمي وجود الدولة والتحول الديمقراطي وتدافع عن الوطن في وجه الخارج والداخل .
إن السودان ، في لحظته المصيرية هذه ، لا يحتاج إلى مفاضلة بين “اللستك” و”البندقية” ، ولا بين الشعب والجيش ، بل إلى وحدة حقيقية يتكامل فيها صوت الثورة مع صوت البندقية الوطنية ، وتتماهى فيها الإرادة الشعبية مع مسؤولية المؤسسة العسكرية .
فلا دولة تُبنى بلا شعب واعٍ ، ولا وطن يُحمى بلا جيش شجاع .
بهما يمكن أن يعبرا بالسودان من نيران الحرب إلى ضوء الدولة المدنية المستقرة ، المسنودة بإرادة شعب وجيش لا يخذلان بعضهما أبداً .