مقالات وآراء سياسية

عندما يتحول الوجدان إلى سلاح : العاطفة كوقود للحرب في السودان

نبيل منصور

 

في الحروب، لا تنطلق الرصاصات من البنادق وحدها، بل من العقول والقلوب حين تفقد بوصلتها. في السودان، كما في كثير من الحروب الأهلية التي عرفها العالم، لم يكن السلاح وحده هو الكارثة، بل البيئة التي جعلت من العاطفة سلاحاً أكثر فتكاً.

 

العاطفة في الحروب : من أداة تعاطف إلى وقود تدمير

العاطفة في أصلها طاقة إنسانية نبيلة. لكنها في ظل الحرب تتحول بسهولة إلى محرك للغضب، للحقد، وللانتقام، خصوصًا إذا وُجد مناخ خصب لتغذيتها، مثل الظلم، الخوف، فقد الأحبة، والتشريد والاحباط والخذلان . وعندما تُستغل هذه العاطفة من قبل جهات تمتلك أدوات التأثير — إعلام، خطاب سياسي، تعبئة مجتمعية — فإنها تخرج من إطارها الفردي لتصبح عاطفة جمعية مسلحة مشحونة ضد الآخر، لا تعرف التمييز بين ظالم ومظلوم، ولا بين الجاني والبرئ.

 

المناخ المناسب لتحويل العاطفة إلى آلة حرب

في السودان، وفّرت الحرب الجارية منذ أبريل 2023م ظروفًا مثالية لتضخيم العاطفة السلبية :

1. انهيار الثقة بين المكونات الاجتماعية : مع كل مجزرة، اغتصاب، أو نهب، تتعمق مشاعر الكراهية وتُرسّخ صورة “العدو” في الوجدان الشعبي، لتُعمّم التهمة على أساس قبلي أو جهوي، دون تمييز.

2. الإعلام المحرّض : تُستثمر مشاهد الألم — الجثث، بكاء الأمهات، الدمار — لتعزيز الكراهية، وتروّج روايات أحادية تُحرّض العاطفة وتُبرّر القتل، بدلًا من الدعوة إلى المحاسبة والعدالة.

3. تواطؤ النخب بالصمت أو الاصطفاف : حين تغيب النخب القادرة على تقديم خطاب وطني جامع، يملأ الفراغ تجار الحرب، ويُترك المواطن لقنوات تُخاطب ألمه لا وعيه.

4. التدهور الاقتصادي والاجتماعي : الجوع، النزوح، فقدان الأمان، كلها تولّد شعورًا جماعيًا بالخذلان، يُعاد توجيهه عاطفيًا لا نحو التغيير، بل نحو الانتقام.

 

لماذا يتم الاستثمار في العاطفة وقت الحرب؟

لأن العاطفة هي الطريق الأقصر والأسرع للسيطرة على الإنسان. العقول قد تناقش وتجادل، أما القلوب الجريحة فتصدّق بسرعة، وتتحرّك دون تردّد:

1. العاطفة تحشد بسرعة : صورة واحدة كفيلة بصناعة رأي عام. لا تحتاج إلى شرح أو تحليل، بل تكفي لتأجيج الغضب وخلق انقسام.

2. تُبرر الأفعال وتمنع التفكير : من يغضب بسبب جريمة ضد “أهله” قد يُبرّر الجريمة المضادة ضد “الآخرين”. لا وقت للتساؤل ولا مجال للتفكير النقدي.

3. تخدم خطاب الحرب بطريقة مثلي : أطراف الحرب في السودان يحتاجون إلى جمهور عاطفي يسهل تحريكه، لا إلى جمهور عقلاني يطالب بالمحاسبة. يحتاجون لمن يقول : “نحن الضحايا، إذًا من حقنا أن نرد بالسلاح”، لا من يقول : “كلنا ضحايا، ولا خلاص إلا بالسلام والعدالة”.

 

الإعلام شريك في تسليح العاطفة

منصات إعلامية كثيرة في السودان، تابعة لهذا الطرف أو ذاك، لا تُظهر الحقيقة كاملة، بل تُظهر منها ما يخدم شحن العاطفة :

• تنشر صورًا منتقاة لتُظهر أن قواتها وحواضنهم ضحية دومًا.

• تتجاهل جرائم الطرف التي تدعمه.

• تستضيف أصواتًا تتحدث بعاطفة لا عقل، ليزداد الغضب، ويستمر القتال.

 

وبهذا، يصبح الإعلام طرفًا في الحرب، لا مرآة للحقيقة

 

أمثلة من حروب مشابهة

رواندا 1994م :

قبل الإبادة الجماعية، أمضى الإعلام الرسمي والمجتمعي سنوات يبث الكراهية ضد “التوتسي”، مستخدمًا لغة عاطفية مشحونة بالخوف والاحتقار، حتى تحولت العاطفة الوطنية إلى ذريعة لقتل أكثر من 800 ألف إنسان في 100 يوم.

 

البوسنة والهرسك :

مع بداية تفكك يوغوسلافيا، تم استخدام العاطفة الدينية والقومية لتبرير مذابح مثل سربرنيتسا، حيث قُتل أكثر من 8,000 مسلم بوسني. العاطفة هنا كانت موجهة : “نحن مظلومون … إذن من حقنا أن ننتقم”.

 

الكونغو :

النزاع المسلح في شرق الكونغو شهد توظيفًا للعاطفة المجتمعية المرتبطة بالأرض والثروة والهوية لإشعال صراعات دموية، شاركت فيها ميليشيات لا تعرف من تقاتل بقدر ما تعرف من تكره.

 

السودان اليوم : العاطفة تُعيد إنتاج الحرب

 

كلما سقطت قذيفة او مسيرة على حي سكني، وخرجت الصور المؤلمة من تحت الأنقاض، استُثمرت عاطفيًا لتأجيج الغضب. لكن بدل أن تُوجَّه هذه العاطفة نحو إنهاء الحرب ومعاقبة المجرمين أياً كانوا، تُستخدم لشحن الغضب ولتعميق الاصطفاف خلف أطراف الحرب، لتبرير القتل المضاد، ولفتح جبهات جديدة ، فكل فعل يولّد رد فعل، وكل مأساة تُبرر مأساة مضادة.

ليست المشكلة في الشعور بالظلم، بل في توجيه هذا الشعور. عندما يصبح الحزن على الضحايا سببًا للمطالبة بمزيد من الضحايا في الجهة المقابلة، فنحن أمام منحدر خطر يقود إلى جنون جماعي، لا يوقفه سوى وعي جماعي صادم.

 

نحو ترشيد العاطفة : دعوة للوعي الجماعي

 

إن أخطر ما تواجهه المجتمعات في الحروب الأهلية ليس فقط السلاح، بل تسليح العاطفة لانها تحول الانسان الي أداة وبالتالي لا يكفي ان ندين الكراهية بل علينا نواجه آليات صناعتها لنعيد الاعتبار للعقل والضمير. وهذه لا تُعالج بالشعارات بل بإستراتيجية واضحة :

 

• إعلام عقلاني يعرض الحقائق كما هي، لا كما يريدها السياسي أو القائد العسكري.

• إعلام يطلع الناس علي الحقيقة ويكشف لهم التشويه والتشويش والكذب والخداع الذي يمارسه أطراف الحرب في سبيل الوصول لاغراضهم.

• اعلام يُعيد إنتاج الإنسان على قيم المشاركة والمواطنة، لا على القوالب القبلية والجهوية.

• نحتاج معارضة لا تخشى مخالفة تيار الغضب الشعبي، بل تسعى لتوحيده خلف مشروع وطني جامع.

• نحتاج إلى تجريم الكراهية والتحريض، سواء كانت بالكلمة أو الصورة، تمامًا كما نجرّم استخدام السلاح ضد الأبرياء.

 

 

الخاتمة

ما يحدث في السودان اليوم ليس فقط حربًا بين قوى مسلحة، بل بين عقل يريد النجاة، وعاطفة تسير به إلى الهاوية. المطلوب هو إعادة توجيه هذه العاطفة الجارفة نحو البناء لا الهدم، نحو العدالة لا الانتقام، ونحو الوطن لا الجهة أو القبيلة.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..