من السلطة إلى الدولة – تحديات بناء السودان ما بعد الاستقلال- أزمة الهوية الوطنية.. لماذا لم يتحقق الاندماج القومي؟(٦)

د. أحمد موسى قريعي
منذ استقلاله عام 1956، ظل السودان يعاني من صراعاتٍ داخليةٍ مرتبطةٍ بمسألة الهوية الوطنية. لم تستطع النخب الحاكمة بناء دولةٍ جامعةٍ تعكس التنوع الثقافي والإثني والديني، بل تم تبني نموذجٍ مركزيٍّ يُقصي الأطراف ويعزز هيمنة فئاتٍ محددةٍ. أدى هذا النهج إلى صراعاتٍ وانقساماتٍ عميقةٍ، انتهت بانفصال الجنوب عام 2011، وما زالت تهدد وحدة السودان واستقراره.
*لماذا فشل السودان في تحقيق الاندماج القومي؟ وكيف يمكن تجاوز أزمة الهوية الوطنية؟*
1. *الصراع بين المركز والأطراف – جذور الأزمة*
منذ الاستقلال، ركّزت السلطة في السودان على المركز (الخرطوم والمناطق القريبة منها)، بينما عانت الأقاليم الأخرى من التهميش السياسي والاقتصادي. هذا التمييز أدى إلى نشوء حركاتٍ احتجاجيةٍ ومسلحةٍ في الأطراف.
أ. *جنوب السودان: الانفصال بعد حربٍ أهليةٍ طويلةٍ*
منذ الاستقلال، عانى جنوب السودان من تهميشٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ وثقافيٍّ.
أدى فرض الهوية العربية والإسلامية إلى إقصاء المكونات غير المسلمة وغير العربية.
بدأت الحرب الأهلية الأولى (1955-1972) ثم الحرب الثانية (1983-2005)، والتي انتهت بانفصال الجنوب عام 2011.
كان الانفصال نتيجةً مباشرةً لفشل مشروع الهوية الوطنية الشاملة، حيث لم يشعر الجنوبيون بأنهم جزءٌ من الدولة السودانية.
ب. *دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق: التهميش والتمرد*
لم تقتصر أزمة الهوية الوطنية على الجنوب فقط، بل امتدت إلى دارفور وكردفان والنيل الأزرق، حيث شعرت هذه المناطق بأنها خارج حسابات السلطة المركزية.
اندلعت حروبٌ في دارفور منذ 2003، وفي جنوب كردفان والنيل الأزرق منذ 2011، نتيجة لغياب التنمية العادلة وإقصاء سكان هذه المناطق سياسيًا.
استخدمت الحكومات السودانية القوة العسكرية بدلًا من الحوار، مما عمّق أزمة الهوية والانتماء الوطني.
النتيجة: أدت هذه الصراعات إلى إضعاف الوحدة الوطنية وتحويل السودان إلى ساحة نزاعاتٍ أهليةٍ مستمرةٍ، بدلًا من أن يكون وطنًا موحدًا لكل مكوناته.
2. *ضعف المؤسسات الوطنية أمام الولاءات القبلية والطائفية*
أ. *هيمنة القبلية والطائفية على الدولة*
لم تستطع الدولة السودانية بناء مؤسساتٍ قوميةٍ محايدةٍ، بل ظلت الحكومات المتعاقبة تعتمد على الانتماءات القبلية والطائفية لضمان الولاء السياسي.
ظهرت أحزابٌ سياسيةٌ قائمةٌ على الولاء للطوائف الدينية، مثل حزب الأمة المرتبط بالأنصار، والاتحادي الديمقراطي المرتبط بالختمية.
في الجيش والخدمة المدنية، تم تفضيل بعض المجموعات على حساب أخرى، مما خلق حالةً من الإقصاء والاستياء في الأطراف.
ب. *غياب مشروعٍ وطنيٍّ جامعٍ*
لم يكن هناك مشروعٌ وطنيٌّ واضحٌ يعكس التنوع الثقافي والديني والإثني للسودان.
بدلاً من ذلك، تم فرض نموذجٍ ثقافيٍّ واحدٍ، مما أدى إلى إقصاء المكونات غير العربية وغير المسلمة، خاصة في الجنوب والمناطق المهمشة.
هذا الوضع جعل فئاتٍ كثيرةً تشعر بأنها غير ممثلةٍ في الدولة، مما دفعها للبحث عن بدائل، سواءً عبر الحركات المسلحة أو بالمطالبة بالانفصال.
النتيجة: لم تستطع الدولة السودانية خلق هويةٍ وطنيةٍ جامعةٍ، بل أصبحت الهويات القبلية والطائفية بديلًا عن الانتماء الوطني.
3. *كيف يمكن للسودان تجاوز أزمة الهوية الوطنية؟*
رغم الصراعات العميقة، لا يزال هناك أملٌ في بناء دولةٍ سودانيةٍ حديثةٍ قائمةٍ على التنوع والاندماج القومي. لتحقيق ذلك، لا بد من اتباع نهجٍ جديدٍ يعالج جذور الأزمة.
أ. *الاعتراف بالتعددية الثقافية والإثنية والدينية*
يجب الاعتراف بأن السودان بلدٌ متعدد الثقافات واللغات والأديان، وأن التنوع يجب أن يكون مصدر قوةٍ وليس سببًا للانقسام.
تبني سياساتٍ تعزز الهوية الوطنية الجامعة بدلاً من فرض هويةٍ واحدةٍ على الجميع.
ب. *تحقيق العدالة في التنمية وتوزيع الموارد*
يجب إنهاء التهميش الاقتصادي والسياسي عبر توزيع الموارد بشكلٍ عادلٍ بين جميع الأقاليم.
تطوير البنية التحتية في المناطق المهمشة، مثل دارفور، كردفان، والنيل الأزرق، لضمان أن جميع السودانيين يشعرون بالانتماء للدولة.
ج. *بناء مؤسساتٍ وطنيةٍ محايدةٍ*
يجب إصلاح الجيش والأجهزة الأمنية ليكون ولاؤها للوطن وليس للحكومة أو القبائل.
إنشاء مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ قادرةٍ على تمثيل جميع السودانيين بشكلٍ عادلٍ.
د. *وضع دستورٍ دائمٍ يعكس التنوع السوداني*
الحاجة إلى دستورٍ يعترف بالتعدد اللغوي والثقافي والديني في السودان.
ضمان مشاركة جميع القوى السياسية والاجتماعية في صياغة الدستور لتحقيق تمثيلٍ عادلٍ لجميع المكونات.
*خاتمة*
لم يكن السودان قادرًا، حتى اليوم، على تجاوز أزمة الهوية الوطنية، حيث ظلت الانقسامات العرقية والدينية والطائفية تهيمن على المشهد السياسي. ولكن لا يزال هناك أملٌ في بناء دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ، شرط أن تتبنى القيادة السودانية نهجًا جديدًا يعترف بالتعددية، ويحقق العدالة، ويضمن حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم.
فهل يستطيع السودان تجاوز إرث الماضي وبناء وطنٍ واحدٍ للجميع؟ هذا ما سنناقشه في المقال القادم.