بلاغ رقم ما تحت الصفر : حينما استهدفت المسيّرة قلبي

لوحة سريالية
إبراهيم برسي
استيقظتُ هذا الصباح على بلاغ لم يُكتب بعد.
كان يطرق على رأسي مثل نعشٍ من غبار الذاكرة.
فتحت الباب،
فدخل عليّ رئيس مجلس سيادة مدينة السواحل المعروضة للبيع.
لم يدخل كضيف،
دخل كفكرةٍ سيئة في كتاب فيلسوفٍ ندم على نشره.
كان يرتدي بزته العسكرية التي زارني بها وقت بلاغه رقم صفر ضد اللساتك،
لكن بزته هذه المرة كانت مصنوعة من ورق الصحف الرسمية.
كلما تحرك، سقطت منه جملة:
“نحن نحمي الدولة من شعبها.”
قال لي وهو يبتسم كما تبتسم الأسلاك الكهربائية قبل أن تصعقك:
“الدموع لا تُغير خطط الطيران.
أنا جئتُ فقط لأتأكد إن كانت ذاكرتك تُخزّن بلاغاتي أم تحذفها بعد القراءة؟”
فقلت له:
“ذاكرتي مثل صندوق أسود، يحفظ كل شيء، حتى حلم حلم والدك موجود فيه.”
نسيت أن أذكر أنه عندما دخل البرهان، كان بيده جهاز تحكم تشويش طائرات صغير، يحاول جاهدًا أن يعرف طريقة تشغيله، وفي عينيه دمعة … لم تُخلق للحزن،
بل للإخراج المسرحي.
كان بجانبه التوم هجو، إلا أن التوم كان مشغولًا
بإخراج جزء من سرواله انحشر بين أليتيه،
وكأن القماش قرر أن يخوض تجربة وجودية، متأملًا عبثية الحياة في أضيق زوايا الجسد.
فرغ التوم هجو من مهمته ثم سأل:
“هل سقطت المسيّرة على وزارة الداخلية أم على شجرةٍ بلا جذور؟”
أجابه البرهان:
“لا يهم، المهم أن الرسالة قد وصلت.”
فهتف بأعلى صوته حتى أصابني بالذعر:
“الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع.”
مسحت عن وجهي الرذاذ الذي تطاير من فمه، ثم جلستُ على الكنبة.
فسألني البرهان بنبرة مُفكر يرتدي بزة دكتاتور:
“ما الفرق بين الوطن والحذاء العسكري؟”
أجبته:
“الأول يُلبَس، والثاني يُداس عليه.”
قال:
“عكسناه في الواقع، أليس كذلك؟”
أشحتُ بوجهي، ثم فتحتُ النافذة.
كان الشعب واقفًا في الخارج، يحملون عمائمهم وطواقيهم في أيديهم، وينظرون إلى السماء.
أدركتُ حينها كم كنتَ عظيمًا أنت، أيها “اللمبي”، وأنّ “الدفاع بالنظر” سلاحٌ تجهل الجيوش الكبيرة استخدامه.
أطل البرهان من النافذة وقرأ عليهم “صورة الواقعة” بنبرةٍ تشبه صدى الهاوية.
ثم بكى.
ولما سألناه: “لِمَ تبكي؟”
قال:
“أبكي من أجل مشروع الدولة، الذي لم يُكتمل.”
فبكى الشعب،
لأنه كان المشروع الناقص.
صعدتُ إلى السطح،
كانت هناك طائرة بدون طيار تجلس على كرسي وتدخّن،
تكتب شيئًا في مفكرتها.
سألتها:
“هل تضربين المدن عمدًا؟”
قالت:
“لا، أنا فقط أتابع أوامر التطبيق … وتحديثاته الأخيرة تقول إن الهدف هو الشعور.”
في زاوية غرفة السلم،
كانت المرآة ترتجف.
فقد دخلها البرهان مبكرًا،
وأعاد تشكيل وجهه على هيئة خريطة تُحذَف منها المدن حسب مزاج السيادة.
أخذت قهوتي، سكبتها في مجرى الصرف الصحي،
لأني خشيت أن تُصنّف كاحتجاجٍ سائل.
ثم كتبت في دفتري:
لا تشرب القهوة إن كنت في وطن يقرأ كل رشفة على أنها اعتراض.
لا تفتح الراديو في حضرة الجنرال، فقد يسمع نفسه ويُعجب.
في النهاية،
خرج البرهان من المرآة،
لكنه نسي أن يغلقها.
فخرجت منها أشباح التاريخ،
تقرأ علينا بلاغات سابقة
كأنها نشيد وطني معدل.
نظرت إلى ظله،
فوجدته يشبه خريطة بلا شمال.
وقلت أخيرًا:
“أنت لا تحكم دولة، بل تُدير خطأً مطبعيًا في كتاب التاريخ.”
ثم أغلقت الباب،
لكن المفتاح انكسر،
ففهمت أن هذا الوطن،
لم يُصنع ليُغلق،
بل ليُفتّش دائمًا عن مفتاح لم يُصنع بعد.
في الطابق العاشر، كان البرهان يشرح نظام الطوارئ للموظفين الجدد.
قال وهو يشير إلى زر أحمر:
“هذا لتبليغ الطابق المدني … بالقصف.”
ضحك الجميع، ثم اختبأوا خلف الابتسامات كما يختبئ جبريل خلف فائض الميزانية.
غادر البرهان المكان على عجل، فنهض التوم هجو بصعوبة من الكنبة، فانحشر سرواله بين أليتيه مرةً أخرى، ساحبًا معه جزءًا من قماش جلابيته.
إلا أنه لم يكترث لإخراجه هذه المرة، فارتبك القماش في موضعٍ حرج، وصار السروال بين خيارين كلاهما مر، وأصبح ضحيةً لتوترات الجسد.
أبعدت وجهي سريعًا والتفتُّ نحو شباكٍ يطلُّ على ساحةٍ يُجلد فيها الموظفون القدامى لأنهم لم يُجددوا ولاءهم للشيخ الورع.
وكان الناس في الشارع، يجمعون أشلاءهم في أكياسٍ بلاستيكية، ويبحثون عن ياسر العطا….
نزلت إلى الطابق الأرضي.
استقبلتني موظفة الاستقبال بوجه يشبه ملامح مالك عقار بعد مكالمة طارئة من قيادة الجيش.
قالت لي بلغة لم أتعلمها في أي من مناهجنا القديمة:
“هل لديك حجز؟”
قلت: “أنا المواطن.”
فقالت، وهي تُدخل رقمي في النظام:
“المواطن؟ هذا الاسم لا يظهر في قاعدة البيانات.”
ثم رمت عليّ بطاقة إقامة مؤقتة، مكتوب فيها:
“غرفة على الواجهة … مواجهة للمسيّرة.”
جلست لأكتب،
لكن اللغة كانت مشغولة بالبكاء على قارعة البيان العسكري.
استيقظتُ،
كان البرهان نائمًا في سريري،
وفي يده زجاجة فارغة لمشروب كحولي محلي الصنع وجهاز تحكم لتشويش الطائرات المسيّرة، لكن بطارياته تحتاج إلى تغيير.
دخلت الغرفة، أغلقت النافذة على ما تبقى من ضوء،
وكتبت في دفتري الصغير، بجانب قائمة المشتريات:
قهوة
خبز
غاز
تأمين ضدّ المسيّرات
تفسير حلم أن تكون في وطنك ولا تملك عنوان
دمعة للمشهد الأخير.
في الخارج،
عربة إسعاف تتوقف فقط إن تأكدت أن الجريح
لا يتبع جهة غير مرغوبة.
في السماء،
المسيّرة تسأل عن الحدود بين الفكرة والجثة،
وفي نشرة الأخبار:
الجيش يعلن السيطرة على الأجواء،
واللغة تعلن انسحابها من البيان.
أنا المواطن،
الذي تأخر عن الطائرة،
حقيبة بلا تذكرة،
جملةٌ نسيتها اللغة،
حين قررت الهجرة إلى “جهة محايدة”.
أنا المواطن،
الذي نام مرةً على أمل أن الغد سيبدأ،
فأيقظته المسيّرة،
لا بخوف،
بل بسؤال:
“هل الحلم قابل للقصف؟”