مقالات وآراء سياسية

من نبوءة البيان إلى بيروقراطية السوق : تحنيط الشيوعية بين الصين وصمت النظرية

نبيل منصور

 

1. بداية الرحلة

 

كيف أصبحت الشيوعية، التي بشّرت بثورة عالمية وبإنهاء الاستغلال الطبقي، مجرد ظِلٍ باهت في عالمٍ تهيمن عليه الرأسمالية من أقصى الأرض إلى أقصاها؟

طرحتُ هذا السؤال لا بحثًا عن إجابة جاهزة، بل لأُجبر نفسي على خوض التجربة من البداية. من البيان الشيوعي، من أول الصرخة.

قرأته وكأنني أقرأ نبوءةً قديمة، صوتًا يأتي من زمن انقرضت فيه الأحلام الكبرى. لكن، كلما تعمّقت، كلما شعرت أن شيئًا في هذا البيان لا يزال حيًّا، يتململ تحت ركام التاريخ. بدا لي كأن الصراع الطبقي لم يُحسم بعد، بل فقط أُعيد تشكيله في قوالب جديدة.

أُعيد تشكيل الصراع الطبقي حين تحوّل من مواجهة صريحة بين الطبقات إلى شبكة معقدة من الهيمنة الناعمة؛ لم يعد الاستغلال يُقاس فقط بما يُنتج، بل بما يُحجَب عن الوعي، حيث تُمارس السيطرة عبر الحاجات المؤجلة، والديون، والخوارزميات، وتُصاغ الطاعة في هيئة حرية.

أي حين يظن الناس أنهم أحرار لأنهم يختارون، بينما اختياراتهم نفسها مبرمجة، مرشَّحة مسبقًا بما تسمح به المنظومة: ما يشاهدونه، ما يشترونه، حتى كيف يفكرون. الحرية تُمنح لهم كقناع أنيق، يُخفي خضوعًا ناعمًا، لا يُقاوِم بل يرغَب.

قلت لنفسي: إن كانت هذه النبوءة لا تزال تتنفس، فأين الشيوعية اليوم؟ أين مشروعها؟ أين حلمها الذي وعدت به البشرية؟

أدرت وجهي نحو الواقع، فبرز سؤال جديد: إذا تراجعت أمريكا عن عرشها، من سيخلفها؟

بدت الصين مرشّحة بلا منازع. قوة صاعدة، منظمة، ومصمّمة. ولكن، هنا تسلّل السؤال الأهم:

هل ستقودنا الصين إلى عالم أكثر عدالة، إلى الشيوعية، أم إلى نسخة صينية من الرأسمالية؟

كان الجواب قاسيًا، واضحًا كالنصل:

الصين لا تسعى لإثبات النظرية، بل لإثبات النظام. لا تريد تحقيق الشيوعية، بل التفوق في شروط السوق، بلغة السيطرة لا العدالة، وبيدٍ تُمسك بالسوق وأخرى بالشعب.

وهنا، بدأ العنوان يتكوّن في داخلي…

الشيوعية لم تُطبّق. لم تنتصر. لكنها أيضًا لم تُدفن.

بل، وكأنها حُنّطت؛ جُمّدت في الأيقونات واللافتات، واستُخدمت كشعار فارغ، بينما سار الواقع في اتجاهٍ معاكس تمامًا.

 

وُلد مقال “من نبوءة البيان إلى بيروقراطية السوق: تحنيط الشيوعية بين الصين وصمت النظرية” من هذه الرحلة الفكرية.

لم يكن نصًا منفصلًا عن الأسئلة، بل خلاصة بحثٍ بدأ من البيان الشيوعي، ومرّ بتحولات القوى، وانتهى إلى مفارقة كبرى:

أن تُسيطر قوة عالمية على العالم باسم الشيوعية، وهي تمارس كل ما يتناقض معها.

 

فهل انتهت الشيوعية؟

ربما لم تَعُد مشروعًا سياسيًا فعّالًا، لكنها باقية كمرآة تُواجه بها الرأسمالية نفسها…

كأثرٍ حيّ في ضمير الوعي، يُذكّرنا بأن العالم يمكن أن يُعاد بناؤه بشكلٍ أكثر عدالة — لو امتلكنا الجرأة، لا على تكرار الماضي، بل على تجاوزه.

2. صعود الصين : شيوعية بالاسم، رأسمالية بالفعل؟

من بين كل الدول التي رفعت الراية الشيوعية، لم ينجُ من الانهيار إلا نموذج واحد: الصين.

لكن المفارقة أن هذا “النجاة” لم يأتِ من خلال انتصار النظرية، بل من خلال التخلي الهادئ عنها.

منذ إصلاحات دنغ شياو بينغ في أواخر السبعينيات، دخلت الصين في مسار جديد: الاقتصاد الحر تحت قيادة الحزب الشيوعي.

فُتحت الأسواق، انتعش رأس المال، وظهرت طبقة رأسمالية جديدة داخل نظام يُفترض أنه مناهض لها.

كل ذلك جرى في إطار خطاب سياسي يُبقي على الرموز الشيوعية، دون أن يربطها بأي مشروع تحرري فعلي.

الصين اليوم تُهيمن على التجارة العالمية، تستثمر في إفريقيا وآسيا، تنافس أمريكا في التكنولوجيا والتمدد العسكري، لكنها تفعل كل ذلك بلغة السوق لا بلغة الثورة.

نظامها صار نموذجًا مغايرًا: رأسمالية تُدار من قبل حزب شيوعي مركزي، لا يتسامح مع المعارضة، ولا يسمح بتعدد القوى.

فهل هذا هو الوجه الجديد للشيوعية؟

أم هو اعتراف غير معلن بانتصار الرأسمالية حتى على ألدّ خصومها؟

في الحالتين، النتيجة واحدة:

ما من أثر حقيقي اليوم لما بشّر به ماركس في مسألة العدالة الطبقية أو الملكية الجماعية.

3. فرصة لم تُستغل: لماذا لم تثبت الصين صواب النظرية؟

حين بدأت الصين تزاحم أمريكا على قيادة العالم، بدا المشهد كأنه لحظة تاريخية نادرة.

ها هي دولة شيوعية بالاسم، تنجح اقتصاديًا، وتتمدد سياسيًا، وتُعيد رسم خريطة القوى.

لكن بدل أن تكون هذه اللحظة إعلانًا عن انتصار النظرية، كانت على العكس: إعلانًا عن صمتها الطويل.

كان يمكن للصين أن تُعيد الاعتبار إلى مفاهيم الشيوعية الجوهرية: العدالة الاجتماعية، إنهاء التفاوت الطبقي، التوزيع العادل للثروة، ديمقراطية العمال.

لكنها لم تفعل. ما قدمته هو نسخة بيروقراطية من الرأسمالية، تُدار بقبضة الدولة، وتُغذّى بالاستثمار، ويُبرر فيها التفاوت على أساس “النمو القومي” و”المصلحة العليا”.

لم يكن الهدف إثبات الشيوعية، بل إثبات النجاح.

والصين فهمت أن العالم لا ينتظر نموذجًا أخلاقيًا، بل نموذجًا فعالًا.

وبين الأخلاق والكفاءة، اختارت الأخيرة، وتخلّت عن حلم النظرية.

بلغة أكثر واقعية: لم تكن الصين في لحظة صعودها تريد أن تُحرر العالم، بل أن تحكمه.

وهذا فارق جوهري بين مشروع ماركس، ومشروع الحزب الشيوعي الصيني.

 

4. صمت النظرية: تحنيط لا دفن

ما حدث للشيوعية ليس موتًا بالمعنى الكامل، بل أقرب إلى التحنيط: أُبقيت كرمز، كأيقونة، كإرث دعائي، لكن رُفعت عنها الحياة.

لم تُدفن، ولم تُفعّل. بقيت حاضرة في الشعارات، غائبة في السياسات.

هذا التحنيط ليس خاصًا بالصين وحدها. بل حتى الأحزاب الشيوعية في بلدان أخرى، حين تُتاح لها فرصة الوصول إلى السلطة، تسير غالبًا في نفس الطريق: خطاب شيوعي، وممارسة رأسمالية.

والسبب؟ أن قواعد اللعبة العالمية لا تسمح بغير ذلك. من يريد البقاء، عليه أن يلعب بلغة السوق، حتى لو رفع رايات حُمر.

هكذا، لم تعد الشيوعية اليوم مشروعًا سياسيًا فعّالًا، بل مرآة تُواجه بها الرأسمالية نفسها، تُذكّرنا بما كان يمكن أن يكون، دون أن تُقنع أحدًا بأنه ما زال ممكنًا.

ووسط هذا الصمت الطويل، لا يمكننا إلا أن نتساءل:

هل انتهت الشيوعية فعلًا؟

أم أنها تنتظر شروطًا تاريخية جديدة؟

أم أن صمتها الطويل هو إعلان غير مباشر أنها لم تعد تملك ما تقوله لهذا العالم؟

 

ما بعد الصمت؟

حين بدأت هذا التأمل، لم أكن أبحث عن استرجاع نص كلاسيكي، بل عن معنى.

كيف انقلب وعد الثورة العالمية إلى مجرّد ذكرى؟

كيف تخلّت الشيوعية عن دورها كمحرّك للتاريخ، لتغدو ظلًا يُستحضر في النقاشات لا في الواقع؟

وكيف تحوّلت الصين – التي كان يُفترض أن تكون دليلاً على صواب النظرية – إلى أكبر مصنع رأسمالي في العالم تحت راية الحزب الشيوعي؟ أيمكن أن تكون هذه هي الحتمية التاريخية الجديدة، ولكن في الاتجاه المعاكس؟

ربما لا تزال الشيوعية كامنة في مكانٍ ما : في الحنين، في النقد، في الغضب، في الخيال.

لكنها لم تَعُد مشروعًا حيًا يسير بيننا. لقد جُمّدت، لا فقط لأنها أخفقت، بل لأن من حملوا رايتها اختاروا أن يحتفظوا بها قناعًا، لا منهجًا.

ومع ذلك، لا يمنع هذا التحنيط سؤالًا واحدًا من أن يظل حيًا، يقضّ مضاجع النظام الرأسمالي مهما بدا ثابتًا ومتينًا:

هل هذا هو أفضل ما يمكن أن يكون؟

أم أن العدالة – التي بشّرت بها الشيوعية – لا تزال مُمكنة، إن امتلكنا الجرأة لا لنستعيد الماضي، بل لنتجاوزه؟ .

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..