استثمار موانئ أبوظبي في شرق بورسعيد( أبعاد استراتيجية تتجاوز الأرباح وتُعيد تشكيل خرائط النفوذ)

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.
تأتي اتفاقية هيئة موانئ أبوظبي لتطوير منطقة صناعية ولوجستية متكاملة في شرق بورسعيد، ضمن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، لتلقي بظلالها الثقيلة على المشهد الإقليمي، مثيرةً عاصفة من التساؤلات حول أبعادها الجيوسياسية والاقتصادية المتشابكة. هذه الصفقة، التي تمنح موانئ أبوظبي حق تطوير وتشغيل منطقة صناعية ولوجستية على مساحة 20 كيلومترًا مربعًا في منطقة (كيزاد شرق بورسعيد)، وفق نظام حق انتفاع لمدة 50 عامًا قابلة للتجديد، تُقدم كدفعة قوية للاقتصاد المصري وخطوة استراتيجية حاسمة للإمارات. يتجاوز الأمر مجرد حجم الاستثمار الأولي البالغ 120 مليون دولار في الدراسات السوقية والفنية وتطوير المرحلة الأولى على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة، أو حتى نسبة الـ 15% من إيرادات المشروع التي ستعود لمصر طوال فترة الانتفاع؛فالعائد المالي المستدام لمصر دون تحمل أعباء استثمارية مباشرة، يمثل مؤشرًا على أن جوهر الصفقة يتجاوز الحسابات الربحية المباشرة. إن توقيتها وسياقها الإقليمي المتأزم، لا سيما الراهن السوداني المتفجر، يشيان بأنها تلامس معادلات القوة والنفوذ في منطقة البحر الأحمر وشمال شرق أفريقيا، وتُعيد صياغة تحالفات استراتيجية بأبعاد بعيدة المدى.
لا يمكن فصل مشروع شرق بورسعيد عن التداعيات المأساوية للصراع في السودان، وتحديدًا الفشل الذريع لخطط موانئ أبوظبي لتطوير ميناء أبو عمامة على البحر الأحمر. تاريخيًا، كانت موانئ أبوظبي قد أبرمت اتفاقية طموحة مع الحكومة السودانية، ممثلة بالجيش آنذاك، في ديسمبر 2022 لتطوير وتشغيل ميناء أبو عمامة كمشروع لوجستي متكامل بقيمة تقارب 500 مليون دولار، بالشراكة مع مجموعة دال السودانية القابضة. إلا أن هذه الاتفاقية سرعان ما تم إلغاؤها من جانب الحكومة السودانية في بورتسودان، كرد فعل مباشر على اتهاماتها المتكررة للإمارات بدعم قوات الدعم السريع في النزاع الدائر. وعلى الرغم من النفي الإماراتي القاطع لهذه الاتهامات، إلا أن استمرارها وصدورها من جهات سودانية رسمية قد خلق مناخًا استثماريًا شديد العدائية والتوتر. هذا الواقع الأليم في السودان، حيث تتقاطع اتهامات دعم طرف على حساب آخر مع مصالح استثمارية ضخمة، يجعل من تأمين الاستثمارات دافعًا براغماتيًا يتجاوز مجرد الجدوى الاقتصادية التقليدية.ففي بيئة جيوسياسية متقلبة كهذه، حيث تتضارب المصالح وتتصاعد حدة الاتهامات، يصبح نقل الأصول الاستراتيجية إلى ملاذات أكثر استقرارًا وبعيدًا عن نيران الحرب أولوية قصوى.
إن تحول هذا الاستثمار الضخم من السودان إلى مصر ليس سوى أحد الإفرازات المباشرة لهذه الحرب المدمرة؛ إنه ينذر بوابل من التساؤلات المقلقة حول حجم الاستثمارات الأخرى التي قد تُلغى أو تُعاد توجيهها بعيدًا عن السودان، وحول حجم الخسائر الاستراتيجية طويلة المدى التي سيتكبدها السودان نتيجة لهذا النزاع الداخلي الذي يدفع المستثمرين للبحث عن بدائل أكثر استقرارًا وأمانًا.
وبالتالي، تبرز مصر كخيار استثماري جاذب بفضل بيئتها الأكثر استقرارًا وأمانًا، وبنيتها التحتية اللوجستية المتطورة التي تتمثل في قناة السويس وموانئها وشبكة طرقها. هذا الانتقال لا يعكس فقط رغبة الإمارات في حماية استثماراتها، بل يوجه رسالة واضحة بأن أبوظبي، في سعيها لتأمين حضورها المتنامي في قطاع الموانئ واللوجستيات بمنطقة البحر الأحمر، تبحث عن شركاء موثوقين ومستقرين، وأنها لن تنتظر استقرار الأوضاع في السودان لمواصلة تنفيذ أجندتها التوسعية. وبالتالي، يُعتبر مشروع شرق بورسعيد منافسًا غير مباشر لميناء بورتسودان، وهذا التنافس لا يقتصر على حجم البضائع فحسب، بل يمتد ليشمل القدرة على جذب الاستثمارات وتقديم خدمات لوجستية متكاملة بمعايير عالمية. تكمن المنافسة غير المباشرة في أن بورسعيد يقدم بديلاً لوجستيًا كاملاً وجذابًا للشركات والمستثمرين الذين كانوا يعتمدون على بورتسودان كبوابة رئيسية لهم في البحر الأحمر وشرق أفريقيا. ففي ظل الاضطرابات الراهنة في السودان، وما يصاحبها من عدم يقين حول مستقبل ميناء بورتسودان وقدرته على تقديم خدمات مستقرة وفعالة بمعايير دولية، يصبح ميناء شرق بورسعيد، ببنيته التحتية المتطورة وموقعه الاستراتيجي الحاسم على قناة السويس، الخيار الأكثر جاذبية. هذا لا يعني بالضرورة أن بورسعيد سيسحب مباشرة كل حجم البضائع المتجهة إلى بورتسودان، لكنه سيستقطب بلا شك الاستثمارات الجديدة، ويجذب الشركات التي تبحث عن نقطة ارتكاز آمنة ومستقرة لعملياتها اللوجستية في المنطقة، مما يضع ضغطًا هائلاً على الميناء السوداني في حال استمرار الفوضى وتدهور بيئته الاستثمارية. هذا السياق الأوسع للتنافس الإقليمي يشمل موانئ أخرى مثل جدة وجيبوتي، مما يؤكد على أن الإمارات تستثمر في الأمان والكفاءة في بيئة شديدة التقلب.
إن الاستثمارات الإماراتية الضخمة في البنية التحتية الحيوية، لا سيما في قطاعات استراتيجية كالموانئ والمناطق اللوجستية، ليست مجرد صفقات تجارية، بل هي تجسيد واضح لاستراتيجية القوة الناعمة التي تتبعها أبوظبي. من خلال هذه المشاريع، تسعى الإمارات إلى تحقيق نفوذ اقتصادي يترجم تلقائيًا إلى نفوذ سياسي وعمق جيوسياسي. فالسيطرة على نقاط التجارة الرئيسية تضمن لها ليس فقط تأمين مصالحها التجارية، بل تعزز قدرتها على بناء التحالفات، وترسخ صورتها كقوة إقليمية وعالمية فاعلة. في حالة مصر، تزيد هذه الاستثمارات من ترابط المصالح الاقتصادية بين البلدين، وتعمق من العلاقة الاستراتيجية القائمة، مما يخدم أهداف الإمارات في المنطقة. هذا النهج ليس جديدًا على الإمارات، التي لطالما استخدمت استثماراتها كأداة لتعزيز نفوذها وتوسيع حضورها الجيوسياسي في مناطق حيوية حول العالم، لا سيما تلك التي تشهد صراعات أو تنافسًا على النفوذ، حيث يزداد تأثير الأوراق الاقتصادية كأدوات قوة.
توقيع اتفاقية شرق بورسعيد في هذا التوقيت تحديدًا، ومع استمرار الحرب في السودان، يحمل أبعادًا سياسية بالغة الأهمية ويُرسل رسائل متعددة الأوجه. فالصفقة هي تأكيد على الشراكة الاستراتيجية العميقة بين القاهرة وأبوظبي، وتُقدم كدعم اقتصادي وسياسي لمصر في ظل التحديات الراهنة، وهو ما يمكن أن تراه الإمارات استثمارًا في شريك إقليمي موثوق في أوقات الاضطراب. تهدف كلتا الدولتين إلى إرسال رسالة للمجتمع الدولي والمستثمرين بأن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس بيئة جاذبة للاستثمار ومستقرة، وأنها تمثل نقطة ارتكاز آمنة للتجارة العالمية، حتى في خضم الاضطرابات المحيطة.
يُعد توجيه الاستثمارات نحو مصر، حليف الجيش السوداني، بدلاً من السودان نفسه، رسالة قوية ومتباينة من الإمارات إلى الأطراف المتصارعة في السودان. هذه الرسالة قد تُفسر بعدة طرق فبالنسبة للجيش السوداني، قد يرى في هذه الصفقة رسالة مزدوجة؛ فمن ناحية، هي تأكيد على عمق العلاقة بين الإمارات ومصر، حليفته الاستراتيجية، ومن ناحية أخرى، قد تُفسر كإشارة إلى أن الإمارات تستبدل شراكاتها المعطلة في السودان، مثل اتفاقية ميناء أبو عمامة مع الحكومة السودانية، التي تم إلغاؤها في ظل الاضطرابات الحالية وقطع العلاقات. أما بالنسبة لقوات الدعم السريع، فقد يُنظر إليها كإشارة من الإمارات بأن مصالحها الاقتصادية تتجه نحو الاستقرار، وأنها وإن كانت تُتهم بدعم الدعم السريع، فإن أولويتها هي تأمين استثماراتها في بيئات آمنة وبعيدة عن الساحة المباشرة للصراع.
للأطراف الإقليمية، تبرز الصفقة قدرة الإمارات على إعادة توجيه استثماراتها بسرعة نحو مناطق أكثر استقرارًا، مما قد يؤثر على حسابات القوى الإقليمية الأخرى التي قد تسعى لمنافسة نفوذها في البحر الأحمر. تُسهم الصفقة أيضًا في ترسيخ الدور الاقتصادي واللوجستي لمصر في المنطقة، وهو ما يتوافق مع تطلعاتها لأن تكون مركزًا إقليميًا للتجارة والاستثمار، وتستغل الأزمة السودانية لإعادة تشكيل خريطة النفوذ اللوجستي في المنطقة.
وبينما تثير هذه الصفقة تساؤلات حول تأثيرها على العلاقة بين مصر والسودان، لا سيما بعد إعلان حكومة بورتسودان (الجيش) قطع علاقاتها مع الإمارات، فمن المستبعد جدًا أن تؤدي الصفقة إلى قطيعة بين القاهرة والخرطوم، حتى في ظل الراهن السوداني المتأزم. فالعلاقات المصريةالسودانية تتميز بعمق تاريخي وروابط استراتيجية لا يمكن لصفقة اقتصادية مع طرف ثالث أن تُنهيها. فالمصالح الوطنية المصرية العليا، المتعلقة بأمن الحدود، أمن البحر الأحمر، ملف سد النهضة (حيث يمثل استقرار السودان وشريكه العسكري عنصرًا هامًا)، ومكافحة الإرهاب، تفرض على مصر الحفاظ على استقرار السودان والتعاون مع مؤسساته الشرعية، وفي مقدمتها الجيش. مصر ترى في الجيش السوداني الضامن الأساسي لوحدة السودان واستقراره في مواجهة الفوضى. إن سياسة مصر الخارجية تتسم بالبراغماتية الشديدة، ولديها الحق في إبرام اتفاقيات اقتصادية تخدم مصالحها دون أن يكون ذلك سببًا لقطع علاقاتها الاستراتيجية الأعمق.
هذا يبرز قدرة القاهرة وأبوظبي على الفصل الدقيق بين بعض الخلافات المحتملة في الملفات الإقليمية أو المواقف السياسية المتباينة، فمصر على سبيل المثال، كانت داعمة لموقف السعودية في مؤتمر لندن الأخير الذي كان ضد بعض توجهات الإمارات في المنطقة، ومع ذلك لم يؤثر ذلك على وتيرة التعاون الاقتصادي والاستراتيجي بين القاهرة وأبوظبي. هذه البراغماتية المشتركة ليست مجرد تكتيك، بل هي استراتيجية وجودية تسمح للبلدين بالتركيز على المصالح المشتركة الأوسع، لا سيما في مجالات الاقتصاد والأمن الإقليمي، مفضلة المرونة على الجمود الأيديولوجي في خضم معادلات القوة المتغيرة. وبالتالي، على الرغم من احتمالية وجود بعض الانزعاج من جانب الحكومة السودانية، فإن أي حديث عن قطيعة مع مصر يبقى بعيدًا عن الواقع العملي والاحتياجات الاستراتيجية لكلا البلدين، التي تجعل التنسيق المصري-السوداني (بين الجيشين تحديداً) حجر الزاوية في أمن البلدين والبحر الأحمر.
خاتمة:
إن مشروع شرق بورسعيد ليس مجرد استثمار اقتصادي يهدف إلى تحقيق الأرباح لموانئ أبوظبي أو تعزيز الاقتصاد المصري فحسب. إنه في جوهره خطوة استراتيجية متعددة الأبعاد تهدف إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ اللوجستي والاقتصادي في منطقة البحر الأحمر، وتعزيز مكانة مصر كمركز إقليمي لا غنى عنه للتجارة الدولية، وتأمين مصالح الإمارات الاقتصادية والجيوسياسية في ظل الاضطرابات الإقليمية العنيفة، لا سيما في السودان، التي دفعت إلى إلغاء استثمارات سابقة وتحويل وجهة أخرى نحو بيئات أكثر استقرارًا. هذا الاستثمار يؤكد على عمق العلاقات البراغماتية بين مصر والإمارات وقدرتهما على الفصل بين الملفات المختلفة، ويعكس تحولًا حاسمًا في استراتيجية أبوظبي في البحر الأحمر، ويُرسل رسائل سياسية متعددة إلى الأطراف الفاعلة في السودان والمنطقة ككل. وفي النهاية، ستظل مصر تسعى لتحقيق مصالحها الوطنية العليا، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي الفريد وعلاقاتها المتشابكة، في معادلة إقليمية لا تتوقف عن التغير والاشتعال، ليصبح هذا المشروع رمزًا للتكيف الاستراتيجي وإعادة تعريف النفوذ في بيئة جيوسياسية دائمة التقلب.