مقالات وآراء سياسية

لا للحرب بين الشعار والفعل : قراءة نقدية لمقال كمال كرار

نبيل منصور

 

في مقاله الذي حمل عنوان “لا للحرب”، قدم كمال كرار موقفًا مبدئيًا واضحًا ضد الحرب الجارية في السودان، مؤكدًا أن البندقية لم تحل يومًا معضلة، وأن كل حرب انتهت في نهاية المطاف إلى تسوية سياسية. هذا الخطاب، وإن بدا منسجمًا مع قيم الثورة، إلا أنه يطرح تساؤلات جوهرية حول فاعلية الموقف السياسي حين يُعزل عن الأدوات التنظيمية والعملية التي تُفضي إلى التغيير.

 

لا أحد يمكنه إنكار أن شعار “لا للحرب” يمثل موقفًا أخلاقيًا وإنسانيًا نابعًا من عمق معاناة السودانيين، الذين باتوا ضحايا لصراع دموي بين قوتين عسكريتين تتنازعان السلطة وتستبيحان الوطن. ولكن هل يكفي الشعار؟

 

يؤكد كرار أن “لا للحرب ليست كلمة بل فعل”، غير أن مقاله لم يتضمّن أي توضيح لهذا الفعل. لم يطرح آلية عملية لوقف الحرب، أو تصورًا لكيفية تنظيم الشارع حول شعار “لا للحرب” بشكل جماعي. كما لم يدعُ بوضوح إلى بناء تحالف واسع لقوى السلام يواجه آلة الحرب بخطاب منظم ومشروع سياسي بديل. وبهذا، يتحول الشعار إلى موقف أخلاقي معزول، أقرب إلى الحياد السلبي الذي يُستغل من قبل أطراف الحرب للتعبئة أو التبرير.

 

لقد رأينا في تاريخ السودان القريب كيف ذهبت الشعارات الثورية أدراج الرياح حين لم تجد قيادة موحدة تتبناها وتدافع عنها. وشعار “لا للحرب” ليس استثناءً، فهو يحتاج إلى ما هو أبعد من الإمساك بقلم أو مايكرفون. إنه يحتاج إلى تحالف سياسي عريض، وجبهة موحدة، وبرنامج نضالي عملي يُخاطب الجماهير في المدن والأقاليم والمهاجر، ويقود فعلًا جماهيريًا منظمًا وضاغطًا لا يكتفي بالتنديد، بل يسعى إلى إيقاف آلة الحرب فعليًا.

 

ليس كافيًا أن نقول إن الحرب تخدم أجندة الكيزان، أو تفكك السودان، أو تعزز المليشيات، ما لم نمتلك مشروعًا عمليًا يفكك هذه الكوارث عبر أدوات واضحة : وحدة قوى الثورة المدنية، تعبئة جماهيرية سلمية، تحالفات داخلية وخارجية ترفض الحرب بشكل فعّال، وتسعى لتقديم بديل سياسي وانتقالي حقيقي.

 

مقال كمال كرار يعكس صدق النوايا، لكنه يفتقد إلى الواقعية السياسية. فالشعارات التي لا تسندها قوة تنظيمية، تُستخدم كوسيلة تخدير للجماهير، أو تُصادر من قِبل الأطراف المسلحة وتُعاد صياغتها لخدمة مصالحها. وما لم تتحول “لا للحرب” إلى جبهة سياسية واجتماعية متماسكة، فإنها ستظل صرخة في وادٍ سحيق، تزيد من فراغ المشهد وتتيح لأمراء الحرب مساحة أوسع للتضليل والتجنيد والإرهاب.

 

أيضا مقال كمال كرار يستخدم تعبيرات مثل: “المشاريع الأجنبية والمشبوهة”، “العملاء”، “الأجندة المفضوحة”… دون أن يحدد “من” المقصود بها، أو يُقدّم “أدلة”. مثل هذه العبارات تفتح الباب أمام الشكوك والتخوين داخل المعسكر المدني نفسه، وتُضعف أي محاولة لبناء وحدة سياسية. إذ لا يمكن بناء جبهة موحدة على أساس خطاب يُلمّح إلى أن بعض مكوناتها تخدم أجندات أجنبية أو مشبوهة دون توثيق أو توضيح، ذلك لا يخدم غرض التوحيد بل يزرع الشكوك ويدق إسفينًا بين مكونات الجبهة المدنية نفسها. مثل هذا الخطاب، وإن بدت نواياه وطنية، يمكن أن يتحول إلى أداة فرقة وتشويه، تعيق بناء جبهة “لا للحرب” قوية وفعالة. وعليه، فإن من واجب القوى السياسية أن تُمارس نقدًا واضحًا ومسؤولًا، وأن تتجنب لغة التخوين التي تُضعف شرعيتها وتُشتت الجماهير الباحثة عن بديل حقيقي في وجه الحرب والاستبداد.

 

لذلك، فإن المهمة العاجلة ليست فقط إعلان المواقف، بل العمل على بناء البديل الوطني الموحد، القادر على تمثيل السودانيين في معركتهم من أجل وقف الحرب وبناء الدولة المدنية. لا للحرب ” ليست خاتمة الكلام، بل بدايته “. وبدون تنظيم الجبهة المدنية المناهضة للحرب، سيبقى الشعار مجرد أمنية، فيما يستمر الدمار والقتل والمذابح والتشريد.

 

أمثلة تاريخية على محدودية الشعار بلا تنظيم:

 

في السودان:

• في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، رفعت قوى مدنية عدة شعارات مثل السلام وايضا “لا للحرب”، لكنها بقيت ضعيفة في مواجهة قوى السلاح، ولم تؤثر فعليًا إلا بعد أن نضجت توازنات القوى وانتهت باتفاق أديس أبابا (1972م) ثم نيفاشا (2005م).

 

• في حرب دارفور، رغم الشعارات المرفوعة، لم تستطع القوى المدنية فرض السلام، فظل الفاعل الرئيسي هو الحركات المسلحة وصفقات تقاسم السلطة.

 

• بعد مجزرة القيادة 2019م، رُفعت شعارات كثيرة اهمها “دم الشهيد ما راح”، لكنها لم تترجم إلى فعل سياسي موحد، مما سمح للمجلس العسكري بالاستمرار في السلطة وفرض الشراكة وفق ميزان القوة.

 

عالميًا:

 

• في الحرب الفيتنامية، لم يكن لشعار لا مزيد من الحرب ذا تأثير حاسم إلا بعد أن ارتبط بحركة جماهيرية منظمة داخل الولايات المتحدة، شملت طلابًا ونقابات ومثقفين، فرضت على الدولة الانسحاب.

• في الحرب السورية، رفعت قوى مدنية شعار “لا للعنف”، لكنه تلاشى مع عسكرة الثورة لغياب كيان موحد قادر على قيادة هذا الشعار وتحويله إلى برنامج سياسي.

 

• في الحرب الأهلية اللبنانية (1975م – 1990م)، ظهرت قوى مدنية مناهضة للحرب منذ الأشهر الأولى، مثل اللجنة الوطنية للحوار، لكنها فشلت في وقف الحرب بسبب غياب التنظيم والقدرة على التأثير.

 

ختامًا:

مقال كمال كرار يفتقر إلى الإجابة على السؤال الأساسي: كيف نوقف الحرب؟ ليس فقط أخلاقيًا، بل عمليًا. فـ”لا للحرب” تحتاج إلى كتلة تاريخية جديدة تُجسد هذا الموقف على الأرض، وتبني تحالفًا سياسيًا ومجتمعيًا قادرًا على إزاحة طرفي الحرب فعليًا، لا خطابيًا فقط.

إذا لم تُترجم هذه الدعوة إلى تنظيم واسع يملأ الفراغ السياسي، فإن الشعار يصبح مجرد مساحة أخلاقية (لتبرئة النفس) لا اكثر، بينما تترك الواقع ليتشكل على يد القوى المسلحة، ويُعاد إنتاج الدمار تحت شعارات براقة مثل “لا للحرب” بهذه الطريقة.

لا للحرب، نعم. ولكن بشروط الانتصار لا بالحياد. وإلا صارت الحرب وحدها هي المنتصر.

 

بإختصار:

 

لا بد من الاعتراف بأن الحرب لن تتوقف بنداءات فردية مهما كانت نقية، بل عبر تحالف وطني جماهيري يملك الخطة والقرار. تلك هي الترجمة الحقيقية لشعار “لا للحرب”، وكل ما عداها يفتح الباب لتمدد الحرب باسم السلام.

 

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. كل شيوعي رافض للتحالفات الموجودة ضد الحرب ورافض للتفاوض مع الأطراف المتحاربة عندما تسأله كيف نوقف الحرب سيجيبك بتنظيم الجماهير .. الجماهير المشردة والجائعة والمريضة يريد منها الحزب الشيوعي أن تقف في وجه القوى العسكرية الغامشة وتجبرها على وضع سلاحها ووقف الحرب والخضوع للمحاسبة … الحزب الشيوعي لا يهتم حقيقة بموت ومعاناة وتشرد الشعب السوداني ما يهمه حقا هو شعارات جوفاء يعتقد أن تحقيقها سيمكنه من تحقيق برامجه الوهمية لحكم السودان

  2. تحليل منطقي جدا. الشعارات الفضفاضة البراقة دون خطة عمل actionable plan لا تخدم غرضا.
    It is nothing more than a feel good talk for the speaker.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..